أقدم لكم قسم من الجزء الاول من دراسة "الاسس المادية والتاريخية لانتصار الاسلام"، وسيكون بالامكان تقديم بقية الدراسة لمن تعجبه، إذا قام بوضع طلبه في التعليقات يوما ما.
الباب
الأول
المقدمات الذاتية
المؤسس الأول : قصي بن كلاب مائة وخمسون عاماً انقضت ، بين وضع البذرة في الأرض وبين حصاد الزرع وجني الثمار ، بين الحلم والحقيقة ، بين رمي أحجار الأساس وبين استكمال البناء والانتفاع به وسكناه ، هذه المدة هي التي تفصل بين وفاة قصي بن كلاب في الحجون في مكة عام 480 م ، وبين قيام دولة قريش في يثرب على يد حفيده محمد بن عبد الله بن عبد المطلب ( ص ) بدءاً من عام 622م ، فقصي هو المؤسس الأول لتلك الدولة فهو الذي وضع اللبنات الأولى في صرحها ثم تابع أولاده وأحفاده من بعده ، على الأخص هاشم وعبد المطلب تعلية البنيان حتى اكتمل بمعرفة حفيده محمد ( ص ) ويتعين أن نلم بسيرة قصي ، لنحايثه في خطواته ، وهو يؤسس دولة قريش ويحولها من قبيلة مستضعفة تسكن الجبال والشعاب وأطراف مكة إلى القبيلة الحاكمة التي تمسك بزمام السلطة والثروة في العاصمة الدينية المقدسة ، وتسكن الأبطح أكرم بقاعها وتقيم بيوتها في الحرم ذاته ، وتغدو أشرف قبائل جزيرة العرب ، ويطلق على أفرادها " أهل الحرم " ويصبح الإصهار إليهم مكانة رفيعة تتطاول إليها أعناق شيوخ القبائل الأخرى ، وكما تحيط الشعوب في مختلف بقاع الأرض ميلاد زعمائها وقادتها بحكايات عجيبة خارقة للمألوف : الهنود مع بوذا وبنو إسرائيل مع موسى والنصارى مع عيسى أحاطت قريش ميلاد قصي بأسطورة مماثلة ولكنها ساذجة تتفق مع ثقافة عرب الجزيرة آنذاك ، وسوف نرى أن الأسطورة عينها تتكرر مع حفيده عبد المطلب أحد الذين لعبوا دوراً مميزاً في قيام دولة قريش . والحق أنني لم أجد فيما قرأت عن قصي ، خيراً مما خططه الإمام محمد ابن يوسف الصالحي الشامي ، وهو من مؤرخي القرن العاشر الهجري ، وربما أتاح تأخره النسبي الاطلاع على كتب التواريخ والسير ، منذ عصر التدوين حتى زمانه ، فألف موسوعة ضخمة في سيرة النبي العربي محمد ( ص ) أطلق عليها " سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد " وهذا ما جاء بها عن قصي بن كلاب : ( قال الرشاطي ـ رحمه الله تعالى ـ : وإنما قيل له قصي لأن أباه كلاب بن مرة كان تزوج فاطمة بنت سعد بن سيل ، لقب باسم جبل لطوله واسمه خير ضد شر، ويقال أن سعداً هذا أول من حلى السيوف بالفضة والذهب فولدت له زهرة وقصياً ، فهلك كلاب وقصي صغير ، وقال السهيلي رضيع ، وقال الرشاطي : فتزوج فاطمة أم قصي ربيعة بن حرام بن ضبة فاحتملها ربيعة ومعها قصي ، فولدت فاطمة لربيعة رزاحاً ، وكان أخاه لأمه ، فربى في حجر ربيعة فسمي قصياً لبعده عن دار قومه ، وقال الخطابي : سمي قصياً لأنه قصا قومه أي تقصاهم بالشام ، فنقلهم إلى مكة ، وقال الرشاطي : وأن زيداً وقع بينه وبين آل ربيعة شر فقيل له : ألا تلحق بقومك ؟ وعير بالغربة ، وكان لا يعرف لنفسه أبا غير ربيعة ، فرجع إلى أمه وشكا إليها ما قيل له ، فقالت : يا بني أنت أكرم نفساً وأباً ، أنت ابن كلاب بن مرة ، وقومك بمكة عند البيت الحرام ، فأجمع قصي على الخروج فقالت له أمه : أقم حتى يدخل الشهر الحرام ، فتخرج في حاج العرب ، فلما دخل الشهر الحرام خرج مع حاج قضاعة حتى قدم مكة ، فحج وأقام فعرفت له قريش قدره وفضله وعظمته وأقرت له بالرياسة والسؤدد ، وكان أبعدها رأيا وأصدقها لهجة وأوسعها بذلاً وأبينها عفافاً ، وكان أول مال أصابه مال رجل قدم مكة بأدم ( جلود ) كثير فباعه وحضرته الوفاة ولا وارث له فوهبه لقصي ودفعه له . وكانت خزاعة مستولية على الأبطح وكانت قريش تنزل الشعاب والجبال وأطراف مكة وما حولها ، فخطب قصي إلى حليل بن حبشية الخزاعي ابنته حـُبـَّى ، فعرف حليل نسبه فزوجه ابنته وحليل يلي الكعبة وأمر مكة فأقام قصي معه ، وولدت له حبى أولاده ، فلما انتشر ولده وكثر ماله وعظم شرفه ، هلك حليل وأوصى بولاية البيت لابنته حبى ، فقالت : لا أقدر على فتح الباب وإغلاقه ، فجعل ذلك إلى أبي غبشان واسمه المحترش بن حليل وكان في عقله خلل ، فاشترى قصي منه ولاية البيت بزق خمر وقعود ، فضربت به العرب المثل فقالت : أخسر صفقة من أبي غبشان . فلما أخذ قصي مفتاح البيت إليه ، أنكرت خزاعة ذلك ، وكثر كلامها وأجمعوا على حرب قصي وقريش ، وطردهم من مكة وماوالاها . فبادر قصي فاستصرخ أخاه وزاح بن ربيعة فحضر هو واخوته ، وكانت بنوصوفة تدفع الناس بالحج من عرفة إذا نفروا من منى ، فلم يجسر أحد من الناس أن ينفر ولا يرمي حتى يرموا ، فلما كان هذا العام فعلت بنو صوفة كما كانت تفعل ، فأتاهم قصي بمن معه من قريش وكنانة وقضاعة عند العقبة ، فقال لبني صوفة : نحن أولى بهذا منكم فقاتلوه ، فاقتتل الناس قتالاً شديداً وكثر القتل في الفريقين فانهزمت صوفة وغلبهم على ما كان بأيديهم من ذلك ، فانحازت خزاعة وبنو بكر عن قصي ، وعلموا أنه سيمنعهم كما منع من ذلك بني صوفة ، وأنه سيحول بينهم وبين الكعبة وأمر مكة فاجتمع لحربهم فخرجت خزاعة وبنو بكر ، فالتقوا واقتتلوا قتالاً شديداً ثم أنهم تداعوا إلى الصبح وأن يحكموا رجلاً من العرب فحكموا يعمر بن عوف بن كعب المعروف بـ " الشداخ " فقضى بينهم بأن قصياً أولى بالكعبة وأمر مكة من خزاعة ، وأن أي دم أصابته قريش من خزاعة ، موضوع يشدخه تحت قدميه ، وأن ما أصابته خزاعة وبنو بكر من قريش وبني كنانة ففيه الدية ، فودوا 520 دية ، و30 جريحاً وأن يخلي بين قصي وبين البيت فسعى يعمر بن عوف بـ " الشداخ " لما شدخ من الدماء ووضع . فولى قصي أمر الكعبة ومكة وجمع قومه من منازلهم إلى مكة ، فملكوه عليهم ، ولم تكن مكة بها بيت في الحرم ، وإنما كانوا يكونون بها ، حتى إذا أمسوا خرجوا ، لا يستحلون أن يصيبوا فيها جنابة ، ولم يكن بها بيت قديم . فلما جمع قصي قريشا ـ وكان أدهى من رئي من العرب ـ قال لهم : هل لكم أن تصبحوا بأجمعكم في الحرم حول البيت ؟ فوالله لا يستحل العرب قتالكم ولا يستطيعون إخراجكم منه ، وتسكنونه فتسودوا العرب أبداً ، فقالوا : أنت سيدنا ورأينا تبع لرأيك ، فجمعهم ثم أصبح في الحرم حول الكعبة ، وكان قصي أول بني كعب بن لؤي أصاب ملكا أطاع له به قومه ، فكانت إليه الحجابة والسقاية والرفادة والندوة واللواء ، وحاز شرف مكة كله جميعاً فسمي " مجمعاً " لجمعه قومه وفي ذلك قال الشاعر : أبوكم قصي كان يدعى مجمعاً : به جمع الله القبائل من فهر .وبنى دار الندوة والندوة في اللغة : الاجتماع لأنهم كانوا يجتمعون فيها للمشورة وغير ذلك ، فلا تنكح امرأة ولا يتزوج رجل من قريش ، ولا يتشاورون في الأمر ، إلا في داره ولا يعقدون لواء حرب إلا فيها يعقدها لهم قصي ، أو بعض بنيه . قال أبو عبيدة : ولما ولى قصي أمر مكة قال : يا معشر قريش إنكم جيران الله وجيران بيته وأهل حرمه ، وإن الحجاج زوار بيت الله فهم أضياف الله وأحق الأضياف بالكرامة أضياف الله فترافدوا فاجعلوا لهم طعاماً وشراباً أيام الحج حتى يصدروا ، ولو كان مالي يسع ذلك قمت به ، ففرض عليهم خراجاً تخرجه مرتين من أموالها فتدفعه إليه فيصنع به طعاماً وشراباً ولبناً وغير ذلك للحاج بمكة وعرفة ، فجرى ذلك من أمره حتى قام الإسلام ، قال السهيلي رحمه الله تعالى : وكان قصي يسقي الحجيج في حياض من أدم ينقل إليها من بئر ميمون وغيرها خارج مكة وذلك قبل أن يحفر - العجول ، وروى البلاذري عن معروف بن خربوذ وغيره قالوا : كانت قريش قبل قصي تشرب من بئر حفرها لؤي بن غالب خارج مكة ومن حياض ومن مصانع على رؤوس الجبال ، ومن بئر حفرها مرة بن كعب مما يلي عرفة ، فحفر قصي بئراً سماها " العجول " هي أول بئر حفرتها قريش بمكة ومنها يقول رجاز الحاج :نروي من العجول ثم ننطلق إن قصيا قد وفى وقد صدقبالشبع للناس وري مغتبق
ويروي أن قصياً قد أحدث وقود النار بالمزدلفة ليراها من دفع من عرفة .وقسم قصي مكارمه بين ولده : فأعطى عبد مناف السقاية والندوة فكانت فيهم النبوة والثروة ، وأعطى عبد الدار الحجابة واللواء وأعطى عبد العزى الرفادة والضيافة أيام منى ، فكانوا لا يجيزون إلا بأمره ثم مات قصي بمكة فأقام بنوه بأمر مكة بعده في قومهم ودفن بالحجون فتدافن الناس بعده بالحجون . أطلق الدكتور سيد القمني على قصي لقب " دكتاتور مكة " ولكننا نخالفه في ذلك فـ ( هو وصف نرى أنه لا ينطبق تماماً خاصة وأن الحياة القبلية في الجزيرة ـ جزيرة العرب ـ كانت لا تطيق الدكتاتورية ولعل هذا أوضح ما يكون فيما سمي بـ " أيام العرب " الذي يعد سجلاً للمعارك التي دارت بين القبائل العربية بعضها البعض ، أو بينها وبين بعض ملوك فارس ، وكان مرجعها النفور الشديد من أي ممارسة دكتاتورية ولو أن قصياً كان يتمتع بالشمائل التي امتاز بها مؤسسو الدول عادة من قوة الشكيمة ومضاء العزيمة ، بالإضافة إلى سعة الأفق ونفاذ البصيرة ) .. ولعل القارئ يلاحظ ما وصف به الإمام محمد بن يوسف الصالحي قصياً ، أنه كان أدهى من رئى من العرب - ولسنا في حاجة إلى التدليل على تلك الملكات التي تمتع بها المؤسس الأول قصي . ومنعاً للإطالة ، خاصة وأن النص الذي نقلناه من كتاب " سبيل الهدى الرشاد في سيرة خير العباد " قد استغرق حيزاً كبيراً ، نكتفي في إيجاز بالإشارة إلى الخطوات التي رسمها ونفذها قصي بدهاء شديد نحو تحول قريش من قبيلة مشتتة ومتفرقة لا مكانة لها إلا رؤوس الجبال ، إلى قبيلة قوية تسكن أحسن بقعة في مكة ، وهي " الأبطح " والاتجاه إلى تكوين أول دولة غربية في وسط شبه الجزيرة العربية : ( أ ) أول ما فعله هو أنه أصهر إلى رأس قبيلة خزاعة وسيد مكة ، صاحب ولاية الكعبة حليل بن حبشية الخزاعي في ابنته " حبى " ثم توصل إلى ولاية الكعبة ، البيت الحرام الذي تعظمه قبائل جزيرة العرب على بكرة أبيها ، وكان القسم به هو اليمين الحاسمة التي يحرم الحنث فيها :فأقسمت بالبيت الذي طاف حوله رجال بنوه من قريش وجرهمولما أدركت خزاعة خطورة هذا الأمر ، لأن الذي يمسك بولاية الكعبة يحكم مكة عزمت على قتاله فاستعان بأخيه من أمه رزاح بن ربيعة فأعانه واخوته على ذلك ، ثم انتزع من بني صوفة الوظيفة الدينية التي كانت بيدهم وهي دفع الحجاج من عرفة بعد معركة طاحنة ، وقصي ( هو أول من جدد بناء الكعبة من قريش بعد إبراهيم ) وهيمن على حجابة البيت وسقاية الحجاج والرفادة وفرض على قريش خراجاً تدفعه إليه من أموالها فيصنع به طعاماً وشراباً للحجاج في مكة وعرفة ، وهو لم يكتف بذلك بل حفر بئراً سماها " العجول " لسقي الحاج والمعتمر كما أمر بإيقاد النيران على جبال ومرتفعات المزدلفة ليراها من دفع من عرفة كل هذا يدل على أن قصياً أولى " الحج " عناية فائقة ، لأنه الملتقى السنوي لقبائل جزيرة العرب كافة ، من شتى أقطارها وفيه تروج التجارة وتنعقد عدة " أسواق " قرب مكة وما حولها مثل سوق عكاظ وذي المجنة وفيها - علاوة على التجارة - كان يتبارى الشعراء في عرض قصائدهم فالحج إذن موسم ديني تجاري ثقافي ، وكانت ممارسات قصي تلك التي ذكرناها بمثابة إعلان للعرب أن دولة مركزية قامت في مكة وإعلام أن قريشاً تحولت من قبيلة مستضعفة إلى دولة تحكم البيت الحرام ، وفي سبيلها إلى حكم الجزيرة كلها ، عن طريق جمع شمل كل القبائل تماماً مثلما للفرس دولة وللروم دولة . وثمة ملاحظة في هذا المقام وهي أن هذه الخطوة المبكرة من قبل قصي في الاهتمام بشعيرة الحج وهي من الشعائر القليلة إن لم تكن الشعيرة الوحيدة التي كانت موضع إجماع من قبائل الجزيرة حتى تلك التي كان يفشو فيها دين سماوي مثل اليهودية والنصرانية ـ هذه الخطوة المبكرة من قبل قصي كانت الالتفافة الأولى لأهمية " المقدس " واستخدمه كمدماك لشد أزر " الدولة " وهو ما سيواصل العمل به في طريقه ، أحفاده من بعده باقتدار عجيب . ( يهتم علم الاجتماع الديني اهتماماً كبيراً ، بدراسة العلاقة بين الدين وبعض مجالات الحياة الاجتماعية كالعلاقة بين الدين والنظام الاقتصادي والكنيسة والدولة والدين والسياسة ، والدين والأسرة ...الخ ) وكانت وجهة نظر علماء الأنثروبولوجية هي تبيان وظيفة الدين في المجتمعات القديمة أو البدائية أو اللاكتابية أو الأمية سواء في البني التحتية أو البنى الفوقية ( لقد أوضح الأنثروبولوجيون اللاحقون أمثال مالنسكوفي وراد كليف براون في دراساتهم الحقلية ، أن الدين يمارس وظيفة هامة في المجتمعات البدائية هي تدعيم التماسك الاجتماعي وضبط سلوك الأفراد ) . هذا هو أثر الدين في الأنساق الاجتماعية القاعدية ، ولكن ما هو أثره على البني السلطوية ؟ أو بمعنى آخر ما هي العلاقة بين الدين والسلطة ؟ وما هو موقع استراتيجية المقدس من استراتيجية السلطة ؟ ( المقدس هو أحد أبعاد الحقل السياسي ويمكن أن يكون الدين أداة للسلطة ضماناً لشرعيتها ، وإحدى الوسائل المستخدمة في إطار المنافسات السياسية ) ( جورج بالاندييه في الأنثروبولوجيا السياسية ، ترجمة جورج أبي صالح ، ص 93 الطبعة الأولى 1986 ، منشورات مركز الإنماء القومي بيروت ) ، وقد أوضحت الدراسات التي أجريت على كثير من المجتمعات القديمة ( أن البنى الطقوسية والبنى السلطوية مرتبطة ارتباطا وثيقاً وأن ثمة اتصالاً بين دينامياتهما الخاصة ) ( وأن السلطة السياسية تملك السيطرة العامة على المقدس وتستطيع استخدامه لصالحها في جميع الأحوال ) . إذن بدأ قصي في السير في طريق استخدام الدين ، واستثمار المقدس في أمرين : ( أ ) نشر التماسك بين قبائل العرب عن طريق شعيرة الحج باعتبارها الشعيرة المجمع عليها من القبائل كافة بخلاف الأصنام التي كانت تتعدد فيها ، ثم الانتقال من وتيرة التماسك إلى مرحلة التوحيد تحت هيمنة قريش .( ب ) توظيفه كرافعة شديدة الفعالية وذات أثر سحري في النفوس في يد السلطة والإلحاح على هذه الدعوى حتى ترسخت وأصبح القرشيون ذاتهم شخوصاً مقدسة أو على أقل القليل تخالطهم قداسة ملموسة ومن ثم أطلق عليهم " أهل الحرم " ومن البديهي أن شيخهم أو رئيسهم يتمتع بقدر أوفر من القداسة ولذلك ليس اعتباطاً ما قاله المؤرخون عن قصي بن كلاب " كان أمره في قريش في حياته ومن بعد موته كالدين المتبع فلا يعمل بغيره " وصار توظيف الدين سنة من بعده ، اتبعها أبناؤه وأحفاده بذكاء بالغ . ثانياً : جمع بطون أفخاذ قبيلة قريش التي كانت مستضعفة ومشتتة تسكن الشعاب ورؤوس الجبال وأطراف مكة ، وأتاح لها سكنى أشرف بقعة في البلد الحرام " الأبطح " ومن ثم سمى " مجمعاً " وبعد ذلك خطا خطوة جريئة ، وهي أنه أمرهم أن يبنوا بيوتهم في الحرم ، وحول البيت وعلله بجملة وردت على لسانه كشفت عما كان يخطط له وهي قوله " فوالله لا تستحل العرب قتالكم ولا يستطيعون إخراجكم فتسودوا العرب أبداً " فأجابوه لذلك وسيادة قريش لكل العرب كان هو الهاجس الأقوى الذي ملك على قصي لبه وعقله وكل تفكيره والهدف الذي نذر حياته له ، ومن ثم أخذ يحكم التدبير له ، ثم أكمل الخطة من بعده ، أولاده وأحفاده والسيادة على عرب الجزيرة لا تتم إلا بإنشاء دولة مركزية في مكة على غرار الروم والفرس . ثالثاً : بنى قصي دار الندوة وفيها كانت تتم المشاورات لا بين شيوخ قريش فحسب ، بل بين شيوخ القبائل الأخرى ( فكان بيته عبارة عن " ناد للعرب " بل ملجؤهم في جميع المشكلات سواء كانت هذه المشكلات قومية أو شخصية ) ولم تكن دار الندوة للشورى فقط ، بل كانت جميع الأمور الهامة تتم بين جدرانها : عقد أولوية الحرب ، خروج قوافل التجارة ، إبرام عقود النكاح ، وبذلك عدت دار الندوة مقراً للحكم المركزي الوليد ، إذ لم يحدثنا التاريخ العربي عن دار مثلها في أي بقع في جزيرة العرب وهذا كله يفسر لنا مقولة التي كررها الإخباريون كثيراً عن قصي أنه " أول من أصاب ملكاً أطاع به قومه " .وهذا ما أجمع عليه الاخباريون بلا خوف .فكان قصي أول رجل من بني كنانة أصاب ملكا وأطاع له قومه فكانت له الحجابة والرفادة والسقاية والثروة واللواء والقيادة فلما جمع قصي قريشاً بمكة سمي مجمعاً
الخلائــف يواصلون المسيرة
أولاً: هاشم : يوضح القسمات من عادة العرب أن يختص الأب ابنه الأكبر ، بكرائم ما خلفه من منصب أو جاه أو غيره على سائر أبنائه باعتباره " ولي العهد " ، ولا زالت هذه العادات متأصلة في المجتمع العربي حتى الآن ، وهي ليست مقصورة على العرب وحدهم بل أنها موجودة في كثير من المجتمعات ويطلق عليها علماء الاجتماع " التعاقب " وهو انتقال حقوق المنصب والدرجة والجاه والوضع ، ويؤكد د . مصطفى الخشاب أن بقايا هذه الظاهرة ( ورواسبها موجودة في كثير من المجتمعات المعاصرة مثل وراثة المهنة والوضع الاجتماعي ووراثة الفرق الدينية ومشايخ الصوفية والطوائف الحرفية وما إليها ) وجرياً على هذه القاعدة جعل قصي إلى بكره عبد الدار : الحجابة والرفادة والسقاية واللواء والندوة ، ويرى الإخباريون أنه فعل ذلك حتى يسامي عبد الدار اخوته في الشرف ، إذ أنهم في حياة أبيهم ارتفعت مكانتهم الاجتماعية في قريش دونه ، ولم يستطع هؤلاء أن يعارضوا أباهم صاحب الكلمة النافذة خاصة وأن ذلك كان تقليداً عربياً مستقراً كما ذكرنا ، ولكن الجيل الذي خلفهم تمرد على هذا الوضع وثار عليه، بعد أن انتقلت تلك المآثر التي اختص بها قصي عبد الدار إلى بنيه من بعده ، ويبدو أنه ورثهم معها الخمول وعدم نباهة الذكر ، ولذلك فإن هاشم وعبد شمس والمطلب ونوفل بن عبد مناف أجمعوا أن يأخذوا من بني عبد الدار بن قصي ما كان قصي جعله إلى عبد الدار من الحجابة واللواء والرفادة والسقاية والندوة ورأوا أنهم أحق بها منهم لشرفهم عليهم وفضلهم في قومهم، وكان الذي قام بأمرهم هاشم بن عبد مناف ) .
أنقسمت قريش إلى ثلاثة فرقاء : أولهم انحاز إلى بني عبد الدار والآخر إلى بني عبد مناف والثالث وقف على الحياد وسمي بنو مناف ومن والاهم بـ " المطيبين " وسمي بنو عبد الدار ومن آزرهم بـ " الأحلاف أو لعقة الدم " واستعد كل فريق لحرب الآخر ، ولكنهم أخيراً تداعوا إلى الصلح واتفقوا على أن يأخذ بنو مناف السقاية والرفادة والباقي يظل في أيدي بني عبد الدار .
لقد أمعنت النظر في هذه القسمة ، وتساءلت : كيف يترك لـ " بني عبد الدار " وهم الأقل شرفاً والأخفض مكانة والأدنى منزلة ، الوظائف السياسية والعسكرية الهامة مثل : اللواء والندوة ويكتفي " بنو عبد مناف " بـ " الرفادة والسقاية " وهما عملان أصغر مرتبة ، ولا يدخلان في بابي السياسة والحرب ، وفيم إذن كان الشقاق الذي كاد أن يرتفع إلى حد امتشاق السيوف وإراقة الدماء ؟؟؟
توصلت إلى إجابة لعلها تكون صحيحة :بادئ ذي بدء ، المجتمع العربي في الجزيرة كان ولا يزال حتى الآن وإن بصورة أبهت ، يقدر الكرم ويعتبره فضيلة يعلي من شأن من يتحلى بها ويضعه في مكان أعلى ، والسقاية والرفادة وظيفتان لحمتاهما الجود وسداهما البذل والعطاء ومن ثم فإن القائم بهما تلهج بذكره والثناء عليه ركبان الحجيج و المعتمرين .هذه واحدة . أما الأخرى فهذان العملان يتصلان مباشرة بشعيرة الحج التي تقدسها العرب ، وتؤديها قبائل شبه الجزيرة العربية كافة ، بمقولة أنها من إرث إبراهيم وولده إسماعيل ، الجد الأعلى للعرب المستعربة ، حتى القبائل التي فشت فيها اليهودية والنصرانية يحدثنا الإخباريين أنها كانت تحج .
الحج فريضة دينية ، والدين رافعة من أهم الروافع التي أولاها مؤسسو دولة قريش عناية فائقة ورعاية مكثفة وقد بدأ هذا الاتجاه " قصي " ، المؤسس الأول كما فصلنا القول فلما انتقلت الراية إلى هاشم ، سار على الدرب نفسها ، وتعمق على يد عبد المطلب وازداد ضوحاً ، بل أصبح " الدين " هو الفعالية الأولى ، لإنشاء دولة قريش على يد الحفيد محمد عليه السلام من هذا المنطلق كان رضاء هاشم قائد بني عبد مناف بـ " السقاية والرفادة " .
أما اللواء فإن قريشاً قبيلة تجارة في المقام الأول ، وإن نبغ فيها أبطال حرب قبل الإسلام وبعده . أما الندوة فسوف نعرف فيما يلي أن هاشماً وضع يده عليها في هدوء ودون جلبة ، واتخذها مقراً للحكم كما كان يفعل جده " قصي " هذا بالإضافة إلى أن دار الندوة وإن كانت مملوكة لبني عبد الدار فهي مشاع لمشيخة قريش يجتمعون فيها ، بل أن بعض الباحثين يرى أنها كانت نادياً للعرب جميعهم . أما الحجابة فهي أشبه بالعمالة الإدارية ، حقيقة أن من يتولاها تكون في يده مفاتيح الكعبة ، كعبة مكة ، أقدس الكعبات في الجزيرة العربية آنذاك ، ولكن فتح الكعبة وغلقها مسألة ليست ذات خطر ، فالطواف حولها والدعاء عندها والذبح للأصنام والاستقسام بالأزلام بجوارها ، كل ذلك كان يتم سواء كانت مفتوحة أو مغلقة رضى حاجبها أم سخط فالحجابة إذن عمل شرفي لا فعالية له . هذا في رأينا اختيار " بني عبد مناف " وزعيمهم هاشم لتينك المأثرتين : الرفادة والسقاية ، وإطلاق أيدي " بني عبد الدار " فيما خلاهما .*****
( كان هاشم موسراً ، إذا حضر الحج قام صبيحة هلال ذي الحجة فيسند ظهره إلى الكعبة من تلقاء بابها فيخطب قريشاً ويحض على رفادة الحاج التي سنها قصي ، فكانت بنو كعب بن لؤي وسائر قريش يجتهدون في ذلك ، ويترافدون ويخرجون ذلك من أموالهم حتى يأتوا به هاشماً ، فيضعه في داره وكان يأمر بحياض من أدم ، فتجعل في موضع زمزم قبل أن تحفر فيستقي فيها من البيار التي بمكة فيشرب الحج وكان يطعمهم بمكة قبل التروية بيوم ثم بمنى وجمع وعرفة ، يثرد لهم الخبز واللحم والجبن والسمن والسويق والتمر ، ويحمل لهم الماء فيطعمهم ويسقيهم حتى يصدروا أي يرجعوا ) . هكذا نرى هاشماً يهتم بأمر الحاج الوافد على مكة ، فيطعمه ويسقيه ويدفع القرشيين إلى المساهمة في دفع تكاليف الرفادة كل حسب طاقته ، وتبدأ هذه الضيافة في اليوم السابع من هلال ذي الحجة أي قبل يوم التروية وهو اليوم الثامن ويستمر ذلك حتى يصدر الحاج أي يعود إلى بلده ويتتبعه في أماكن تواجده : مكة ومنى وجمع عرفات وكان الطعام الذي يقدم إليه من أجود الأنواع أما الماء فكان يجلبه له من جميع بيار مكة ( لم تكن زمزم قد حفرت بعد ، إذ المعروف أن الذي حفرها هو عبد المطلب ) وحفر هاشم لهذا الغرض بيراً سميت بـ " بذر " وكان ( هاشم يخرج في كل سنة مالاً كثيراً ) . إن اهتمام هاشم بحجاج البيت الحرام فضلاً على دلالته سجية الكرم المتأصلة فيه ، وحثه القرشيين على المساهمة في الرفادة ، يقطع بوعيه التام ، بما في ذلك من إعلام للحجاج الذين يقصدون مكة من شتى نواحي شبه الجزيرة العربية ، أن في مكة حكومة تبسط سلطانها على المدينة المقدسة ، وأنها جديرة بحكم العرب الجزيرة كلهم ، والإحساس العميق بسيادته على مكة امتداداً للسلطان الذي أسسه جده قصي ، ولإشعار جميع من فيها بهذه الهيمنة وعندما حدثت فيما بعد مجاعة سافر إلى الشام ( غزة بفلسطين ) واشترى دقيقاً كثيراً فأمر به ، وعمل ثريداً هشم وأطعم المكيين ومن ثم سمي هاشماً إذ أن اسمه عمرو وقد سجل الشاعر هذه الواقعة في قصيدة منها :عمرو العلا هشم الثريد لقومه ورجال مكة مسنتون عجاف(مسنتون إي أصابتهم سنة مجاعة ) ولا نريد أن نكرر ما سبق أن قلناه إن عناية هاشم بأمر الحجيج وتيسير شعيرة الحج لكل العرب الجزيرة العربية حتى الفقراء منهم بإمدادهم بالطعام الجيد والماء الوفير لهم طوال موسم الحج ، تأكيد من جانبه أن الدين ركيزة متينة من ركائز دولة قريش ، وهذا المنهج استنه كما ذكرنا في البحث الخاص بـ " قصي " ، قصى نفسه ، وقد سار على هذه الوتيرة من بعد هاشم ابنه عبد المطلب بل توسع فيها كما سيجيء في الكلام عليه ، ثم جاء من بعدهم الحفيد محمد ( ص ) فغدا على يديه " الدين " هو شعار دولة قريش التي أقامها في يثرب . ******
إذا كان قصي هو الذي أرسى حجر الأساس لـ " دولة قريش " فإن هاشماً هو الذي أوضح معالمها وأبرز قسماتها وظل دوره فعالاً حتى إنشائها على يد حفيده محمد عليه السلام ، ذلك أن هاشماً كان صاحب نظرة شمولية بمعنى أن نشاطه المتوثب والمتولد عن همة عالية امتد لأكثر من ناحية في تدعيم الدولة التي كانت في طور البروز فبدأ بـ " الاقتصاد " الذي هو عماد أي دولة فقد حول تجارة مكة من المحلية ( ذلك أن قريشاً كانوا قوماً تجاراً ، وكانت تجارتهم لا تعدو مكة ، إنما يقدم الأعاجم بالسلع فيشترون منهم ويتبايعون فيما بينهم ، ويبيعون من حوله من العرب ، فلم يزالوا كذلك حتى ذهب هاشم إلى الشام ، وطلب من قيصر أماناً لقومه ليقدموا بلاده لتجاراتهم فأجابه لذلك ، وكتب لهم قيصر كتاب أمان لمن أتى بهم ، فأقبل هاشم بذلك الكتاب ، فكلما مر بحي من أحياء العرب أخذ من الأشراف إيلافاً لقومه ، يأمنون به عندهم وفي أرضهم من غير حلف ، إنما هو أمان الطريق واستوفى أخذ ذلك ممن بين مكة والشام ، فأتى قومه بأعظم شيء أتوا به بركة فخرجوا بتجارة عظيمة ) .
( وقال الرشاطي : كانت قريش تجارتهم لا تعدو مكة حتى نشأ هاشم بن عبد مناف ، وربل وعظم قدره ) . ثم يسوق الصالحي قصة ركوب هاشم إلى الشام ودخوله على قيصر فـ ( كلمه فأعجبه كلامه ، وأعجب به وجعل يرسل إليه ويدخل عليه ) وأخذ منه كتاب أمان لمن أتى منهم إلى البلاد ، وأخذ الإيلاف من أشراف القبائل ما بين مكة والشام فكان ذلك أعظم بركة ( ثم خرجوا أي القرشيون بتجارة عظيمة وخرج هاشم معهم يجوزهم ويوفيهم إيلافهم الذي أخذلهم من العرب ، فلم يبرح يجمع بينهم وبين العرب حتى ورد الشام ) ، ولم يكتف هاشم بذلك بل دفع إخوته الثلاثة إلى أن يأخذوا أماناً ويعقدوا عقوداً مع سائر الملوك الذين كانوا على حوافي جزيرة العرب فـ ( خرج المطلب بن عبد مناف ) وهو يسمى الفيض لسماحته وفضله إلى اليمن ، فأخذ من ملكهم أماناً لمن تجر من قومه إلى بلادهم ، ثم أقبل يأخذ لهم الإيلاف ممن كانوا على طريقه من العرب ، وخرج عبد شمس بن عبد مناف إلى ملك الحبشة فأخذ منه أماناً كذلك لمن تجر من قربش إلى بلاده ، ثم أخذ الإيلاف من العرب الذين على الطريق وخرج نوفل ابن عبد مناف وكان أصغرهم إلى العراق أخذ عهداً من كسري لتجار قريش ثم أقبل يأخذ الإيلاف ممن مر به من العرب ، فجبر الله قريشاً بهؤلاء النفر الأربعة من بني عبد مناف فنمت تجارتهم واتسعت تجارتهم ، فكان بنو مناف يسمون لذلك " المجيرين " أو " المجيزين " والعرب تسميهم ( أقداح النضار ) لطيب أحسابهم وكرم أفعالهم ) .
بهذا تحولت مكة من قرية صغيرة من قرى القوافل يقنع أهلها بما تنقله القوافل التي تمر بها من بضائع يتجرون فيها مع جيرانهم في يثرب والطائف وأعراب البوادي والوافدين للحج والعمرة ، إلى مدينة كبيرة لها علاقات تجارية مع أكبر القوى الاقتصادية المحيطة بها ، وفي مقدمتها الدولتان العظيمتان في ذلك الزمان : فارس والروم . كذلك نمت ثروات سادات قريش وعظم مالهم ، الأمر الذي سارع في تفكيك البنية القبلية ، ونمى فيهم روح الملكية الخاصة والفردية ، بدلاً من الملكية المشاعية أو شبه المشاعية التي تتميز بها الحياة القبلية ، كل هذا ساعد على بذر بذور الحياة المدينية التي تحتم وجود حكومة تضبط أمورها ولم تعد سلطة شيخ القبيلة كافية ولا مناسبة للحياة الجديدة مما ساعد على قبول فكرة حكومة مركزية تهيمن على المدينة المقدسة ، التي غدت بذلك أو إلى جانب ذلك مدينة التجارة العالمية والثروات الواسعة ، التي لم يكن للعرب عهد بها قبل ذلك فضلاً عن أن ذلك أفرز أيضاً آثاراً جانبية مثل انقسام المجتمع الملكي إلى ملأ يملكون المال الوفير وإلى فقراء حتى من قريش ذاتها بعد نماء الثروات لذلك الحد، وكل هذا سوف يكون موضع دراسة موسعة إلى حد ما في الأبحاث القادمة .
والإيلاف الذي أخذه الأبناء الأربعة ـ علامة على عهود الأمان التي أعطاها لهم الملوك ـ كان له أثر كبير في حركة قوافل قريش داخل الجزيرة ، في الطريق من وإلى الشام والعراق واليمن والحبشة ، ذلك أن القبائل كانت تسترزق من نهب القوافل التي تمر بأرضها ، ولكن الإيلاف منعهم من ذلك ( فكان التجار قريش يختلفون إلى الأمصار بحبل هؤلاء الإخوة فلا يتعرض لهم ) وفي تفسير الإيلاف قال الخليل بن أحمد الفراهيدي : آلف يؤالف وقال الأزهري : الإيلاف شبه الإجارة بالخفارة ، وسواء كان هذا أم ذاك فإن الإيلاف ضرب من المال ، يدفع طواعية كهدايا أو منح لرؤساء القبائل التي تمر بحرمها القوافل التجارية القرشية ، ولكن يمتنع في الإيلاف عنصر الالتزام أو الإكراه لمكانة بني مناف الأربعة لدى أولئك الرؤساء ولأن العرب كانت تعظم القرشيين وتدعوهم " أهل الحرم " ويرى الإمام محمد بن يوسف أن ( الإيلاف أن يأمونا عندهم وفي طريقهم وأرضهم بغير حلف إنما هو أمان الطريق ) ، ويوافقه على ذلك الفيروز آبادي وذهب إلى أن الإيلاف الذي جاء في سورة قريش هو العهد وأن اللام في ( لإيلاف قريش ) للتعجب أي اعجبوا لإيلاف قريش ، وبعد أن ذكر الايلافات التي أخذها الاخوة الأربعة بنو عبد مناف أضاف ( وكان تجار قريش يختلفون إلى هذه الأمصار : الشام ، الحبشة ، اليمن ، فارس ، بحبال هذه الأخوة فلا يتعرض لهم وكأن أخ أخذ حبلاً من ملك ناحيه سفره أماناً له ) . ويؤكد الفيروز آبادي ذلك بقوله ( وتأويله أنهم كانوا سكان الحرم آمنين في امتيارهم وتنقلاتهم شتاء وصيف والناس يتخطفون من حولهم فإذا عرض لهم عارض قالوا : نحن أهل حرم الله فلا يتعرض لهم أحد ) .
وعودتنا إلى ذكر الإيلاف مرة أخرى ، هو تبيان هدف آخر بخلاف الغرض الظاهر ، حماية قوافل قريش وتجاراتها ، ونعني به هو أن قريشاً بهذه الإيلافات قد غدت متميزة عن سائر العرب ، إذ أن القبائل كانت تستقضي جعلاً من كل من يمر بحماها أو أرضها ، حتى كسري نفسه عندما كان يبعث بتجارة داخل الجزيرة العربية كان يدفع جعلاً لكل قبيلة تمر هذه التجارة بأرضها برغم أنها كانت محروسة بـ " أساورة " كسرى ، أي جنوده الأشداء ، وعندما كان يتقاعس كسرى لأي سبب أو لآخر عن دفع " الجعالة " لأي قبيلة تمر بها قافلة ، كانت القبيلة تعتدي عليها ، وقد حدث أن قافلة لكسرى مرت بأرض قبيلة لم تدفع الجعالة المعهودة قام بنو تميم بنهبها ، وأسر جنود كسرى " الأساورة " بل أنهم أسروا ( هوذة بن علي ) وكان ملكاً على قبيلة بني حنيفة ولم يفكوا أسره إلا بعد أن دفع دية مضاعفة .
إن نجاح هاشم بن عبد مناف وإخوته الثلاثة في عقد هذه الإيلافات التي ينتفي منها - كما قلنا - عنصر الإكراه والتي هي ليست أحلافاً ، ورضا رؤساء القبائل بها دليلاً لا يقبل الشك على علو مكانة هاشم وبني عبد مناف وارتفاع نجمهم في الجزيرة ، وشعور شيوخ القبائل بأن وضعاً جديداً يتبلور في مدينة القداسة " مكة " ، خاصة وأن هؤلاء الرؤساء لم يعطوا الإيلافات إلا بعد أن أطلعوا على كتب الأمان التي حررها ملوك فارس والروم واليمن ، ولابد أنهم تساءلوا في قرارة أنفسهم : هل يعطي الملوك مثل هذه الكتب إلا لمن بلغ شأوا بعيداً في السؤدد والسلطان ، واستن هاشم رحلتي الشتاء والصيف الأولى إلى اليمن والحبشة ، والأخرى إلى الشام وفلسطين وكلا من الإيلاف وهاتين الرحلتين ورد ذكره في القرآن الكريم في سورة قريش وفي الشعر :سنت إليه الرحلتان كلاهما سفر الشتاء ورحلة الأصياف واهتم هاشم أيضاً بتوثيق العلاقات الدبلوماسية مع الممالك الواقعة على أطراف الجزيرة فكان ( يدخل على قيصر فيكرمه ويحبوه ) ..( وخرج أخوه عبد الشمس إلى النجاشي بالحبشة وخرج أخوهما نوفل إلى الأكاسرة بالعراق وخرج المطلب إلى حمير باليمن ) . هذه السفارات الدبلوماسية لملوك الأرض المعروفين آنذاك ، كانت موضع إعجاب وتقدير شديدين من العرب قاطبة ، فقال منهم عبد الله بن الزبعري وقيل بل هو أبوه :يأيها الرجل المحول رحله هلا نزلت بآل عبد منافالآخذون العهد من أفاقها والراحلون لرحلة الإيلاف .والشعراء في ذلك الزمان كانوا هم أهل الثقافة ورجال الإعلام وألسنة القبائل .
وذكر الإمام محمد بن يوسف الصالحي الشامي رواية موجزها أن قيصر بعث إليه ليتزوج ابنته وسواء صحت هذه الرواية أم بطلت فالأمر الثابت أن هاشماً كان يفد على ملك أو إمبراطور الروم فيكرمه ويحبوه ، بل بلغ تقديره إياه أنه ( كتب إلى النجاشي أن يدخل قريشا في أرضه ) وقرأنا أخبار إرساله إخوته سفراء لباقي الملوك .والذي يفعل ذلك مع الملوك الذين يقابلونه بالتكريم ، لابد أنه قد بلغ مرتبة حاكم المدينة المقدسة ، لا مجرد شيخ قبيلة من عشرات القبائل التي تعج بها الجزيرة العربية ، وهذه الحقيقة بلغت أولئك الملوك عن طريق جواسيسهم في مكة الذين كانوا يتزينون بزي التجار .ولقد قيم حبر الأمة الصحابي الجليل عبد الله بن عباس ، جده هاشماً تقييماً صحيحاً أوضح دوره في بناء دولة قريش فقال روى البلاذري عن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ قال : والله لقد علمت قريش أن أول من أخذ لها الإيلاف وأجاز العيرات لهاشم والله ما أخذت قريش حبلاً لسفر ، ولا أناخت بعيراً لحضر إلا بهاشم ) . ******* وثق هاشم أيضا صلاته الداخلية ، بأن أصهر إلى العديد من القبائل الكبيرة المشهورة ، فتزوج سلمى بنت عمر بن زيد سيد بني عدي بن النجار من الخزرج بـ " يثرب " ، وكانت امرأة حازمة جلدة مع جمال ، رآها تتاجر بنفسها في سوق النبط فأعجبته وكانت تتأبى على الخطاب بعد طلاقها من زوجها الأول ولكن لما علمت أنه سيد مكة زوجته نفسها ) . كذلك تزوج هند بنت عمر من بني الخزرج ، وهكذا ارتبطت قريش بأهل يثرب برباط متين وسوف تزداد هذه الرابطة شدة على يد عبد المطلب ، أما علاقة محمد(عليه السلام) بـ " اليثاربة " فمعروفة هذا يدعونا إلى القول بأن نشوء دولة قريش في تلك المدينة لم يكن مصادفة تاريخية بحت ، وهذه مسألة جديرة بالبحث والتمحيص من قبل علماء التاريخ الإسلامي المحدثين الذين مازال أغلبهم يمر على هذه المسائل الحساسة مروراً عابراً مكتفياً بالتعليلات الغيبية التي ذكرها مؤرخو الإسلام القدامى مثل قولهم : ( لما أراد الله بالخزرج والأوس الكرامة قيض لهم مقابلة محمد بمنى في موسم حج فعرض عليهم الإسلام فآمنوا … ) هكذا دون بحث الأسباب الموضوعية الكامنة وراء استجابتهم السريعة لدعوة محمد عليه السلام ، مثل مجاورتهم لليهود وسماعهم منهم نظرية ( النبي المنتظر ) وكوجود علاقات قديمة تمتد لعشرات السنين بين قريش وأهل يثرب .
ألم يفكر هؤلاء المؤرخون المحدثون في المقارنة بين سبب رفض ثقيف التي تقطن الطائف وهي أقرب إلى مكة من يثرب للإسلام ومحاربتها إياه بشراسة حتى إنهم قتلوا أحد زعمائهم وهو " عروة بن مسعود " عندما دعاهم إليه ، وقبلها صمدوا لجيش الرسول محمد عليه السلام ولحصاره قريتهم حتى عاد أدراجه إلى المدينة انتظاراً لفرصة أخرى ، وبين قبول الأوس والخزرج لديانة الإسلام بسهولة ويسر يلفتان النظر ؟؟
إن القول بأن ذلك مرجعه لتمسك ثقيف بمعبوديهم " الطاغية " غير كاف لأن الأوس والخزرج لم يكونوا أضعف إيماناً بأربابهم أو آلهتهم من أهل الطائف . إذن لابد من تقصي الأسباب الموضوعية التي غفل أو تغافل عنها المؤرخين ، وهو ما يعزز الدعوة إلى إعادة كتابة التاريخ الإسلامي بموضوعية وعقلانية والنأى عن عهد التعليلات التي تعتمد على الغيبيات والماورائيات والأساطير . بعد هذه الاستطرادات نعود إلى هاشم ودأبه على تمتين علاقاته في الداخل بالأصهار إلى أمهات القبائل في جزيرة العرب :فقد تزوج أيضاً : أم قيلة فهي " الجزور " بنت عامر من خزاعة ، أميمة بنت عدي من قضاعة ، وواقدة " أم عبد الله " بنت عدي من صعصعة وعدي بنت حبيب من ثقيف ، وصار الإصهار إلى كبريات القبائل من بعد هاشم سنة أتبعها خلفاؤه من بناة " دولة قريش " مثل ابنه عبد المطلب وحفيده محمد ( ص ) الذي تحقق على يده الحلم وتحول إلى واقع وبرزت إلى الوجود دولة قريش في يثرب . *****
وكان من رأي هاشم أن العدالة الاجتماعية مطلب ملح لإقامة دولة قريش لذا حرصه عليها وعلى تحقيقها على أرض الواقع شديداً ، فقد رأينا حثه قريشاً على الإسهام في تكاليف الرفادة التي يستفيد منها بالدرجة الأولى فقراء العرب من الحجاج .ولم يكن حرص هاشم على تكريس العدالة الاجتماعية ففي موسم الحج فحسب بل في داخل مكة وبصفة مستمرة لا موسمية . يقول الإخباريين أنه كانت توجد بين العرب عامة وقريش خاصة عادة تسمى الاحتفاد ( أن أهل البيت منهم كانوا إذا سافت يعني هلكت أموالهم خرجوا إلى براز من الأرض فضربوا على أنفسهم الأخبية ثم تناوبوا فيها حتى يموتوا ، خوفاً من أن يعلم بخلتهم أي فقرهم ) فأبطل هاشم هذا التقليد الخبيث وقال لقريش ( رأيت أن أخلط فقراءكم بأغنيائكم فأعمد إلى رجل غني فأضم إليه فقيراً بعدد عياله ) وفي نظر الإمام القرطبي : " أن تلك العادة كانت تسمى " الاعتفار " وتفسير هذه الكلمة عنده : ( أنه إذا أصابت واحداً منهم مجاعة جرى هو وعياله إلى موضع معروف فضربوا على أنفسهم خباء حتى يموتوا اتقاء لمرة التسول ومد اليد إلى الغير وأنفة من طلب الإحسان من القريب أو الغريب وهو تفسير الصالحي عينه . وحدث أن أسرة من بني مخزوم شرعت في الاعتفار فبلغ ذلك هاشما ففزع أشد ما يكون الفزع ( فقام خطيباً في قريش وكانوا يطبعون أمره فقال : أنكم أحدثتم حدثاً تقلون فيه وتكثر العرب وتذلون وتعز العرب وأنتم أهل حرم الله جل وعلا وأشرف ولد آدم والناس بكم ويكاد هذا الاعتفار يأتي عليكم فقالوا نحن لك تبع فقال ابتدئوا بهذا الرجل ـ يعني الذي اعتفر ـ فأغنوه عن الاعتفار ففعلوا )
ونخرج من هذه الخطبة بالحقائق الآتية : أ ـ أن قريشاً كانت تطيع أمره وما ذلك إلا لأنه كان سيدهم وحاكم مكة .ب ـ اعتقاد هاشم الجازم بأن قريشاً أهل حرم الله جل وعلا وأشرف ولد آدم والناس تبع لهم وظل هذا الاعتقاد راسخاً في نفوس القرشيين .ج ـ خشية هاشم من أن الاعتفار أو الاحتفاد سوف ينقص عدد قريش ويذلهم . وسبق أن أوردنا أن هاشماً عندما ضربت قريشاً مجاعة في إحدى السنوات أحضر دقيقاً من الشام (فلسطين) وجعله ثريداً وهشمه وأطعم من أضير من المكيين من المجاعة . لقد شجب الاحتفاد أو الاعتفار قولاً وعملاً وأنقذ فقراء قريش لله من الموت جوعاً لشعوره بالمسئولية كحاكم لمكة ، ولاعتقاده أن الظلم الاجتماعي يقوض أركان الدولة التي كان يسعى لتدعيمها بعد أن وضع أساس بنيانها جده " قصي " .كذلك كان هاشم إذا بلغه خبر عن وقوع خلاف بين قبيلتين يؤذن بشر مستطير ، عمل جاهداً ولعل أشهر واقعة في هذا الصدد تلك التي خطب فيها خطبته المعروفة بـ ( الحكيمة ) والتي ملخصها أنه ( لما وقع بين عذرة وخزاعة هنة في سبب غلام لإمرأة من خزاعة يحطب لها ويعود بكسبه عليها ، فأصابه رجل من بني عذرة فقتله فحملت عذرة قيمته إلى خزاعة فأبوا أن يقبلوها وقالوا : لا يكون ذلك حتى نقتل غلام عمرة بنت قبيضة من سليك ، فتفاقم الأمر بينهم حتى تداعوا بالأحلاف ، فخشي هاشم ابن عبد مناف فساد الحرم وأن تنتهك حرمته فدعا بمنبره المركن ووعد الناس بئر بني قصي بن كلاب الحرد التي بملتقى الرفاق ، فلما اجتمع الناس قام فيهم خطيباً فخطب خطبته التي تسمى ( الحكيمة ) اختص فيها بني نزار دون قحطان ، ومضر دون ربيعة وقريشاً دون سائر القبائل فقال : معاشر الناس نحن آل إبراهيم وذرية إسماعيل وولد النضر بن كنانة وبنو قصي بن كلاب وأرباب مكة وسلطان الحرم ، لنا ذروة الشرف ولباب الحسب ومعدن وغاية العز . ونحن جبال الأرض ودعائم الحق وسادات الأمم ) . ودعا الفريقين إلى تحكيم العقل ونبذ الحرب ورأب الشعب وجمع الفرقة ( ثم سكت فقال بنو عذرة وبنو خزاعة : قد رضينا بحكمك يا أبا نضلة وانصرف القوم عن صلح )
من هذه الخطبة أيضاً نخرج بالحقائق التالية :أ ـ أن هاشماً عندما جمع القبيلتين المتنازعتين بني عذرة وخزاعة لفض خلافهما كان دافعه لذلك ( خشية فساد الحرم وانتهاك حرمته ) أي زعزعة استقرار الدولة التي يسهر على شئونها .ب ـ أنهم استجابوا لدعوته فوراً وهذا لمقامه كسيد لمكة وحاكم للبلد الحرام .ج ـ كان له ( منبر مركن ) شأن الملوك .د ـ أنهم رضوا بحكمه دون تردد .هـ وصف قريشاً بأوصاف لا تدع مجالاً لأدنى شك بإيمانه بأنها سيدة العرب ومالكة أمرهم عبارات بالغة الدلالة ، ناطقة بذاتها ليست في حاجة إلى تفسير وغنية عن أي تأويل ، ولقد ورث أبناؤه وأحفاده هذا الإيمان وغدا في نفوسهم عقيدة راسخة رسوخ الجبال أن قريشاً لم تعد قبيلة كسائر قبائل شبه الجزيرة العربية بل هي دولة حاكمة على أقدس مدينة ، وحائزة على شرف الهيمنة على أقدس كعبة فيها وأنها بصدد التحول إلى دولة مركزية سوف تسيطر على بلاد العرب من أدناها إلى أقصاها .و ـ أن من حضر من القبائل وسمع تلك الخطبة ( الحكيمة ) لم يجرؤ على أن يعارض كلمة واحدة منها ، لأنهم يوقنون في مستقر نفوسهم أن ما صرح به هاشم حق لا مرية فيه وأن " قريش الدولة " غدت واقعاً ملموساً وأنها اليوم تمسك بيديها زمام الأمور في مكة ، وفي الغد القريب سوف تسيطر على الجزيرة العربية كلها . ****
هذه لمحات سريعة عن الجهود التي بذلها هاشم في رفع بنيان دولة قريش وسوف يواصل تعليته من بعده ابنه عبد المطلب حتى يكتمل على يد حفيده محمد عليه السلام . .
وللدراسة بقية لمن يطلبها في تعليق
المقدمات الذاتية
المؤسس الأول : قصي بن كلاب مائة وخمسون عاماً انقضت ، بين وضع البذرة في الأرض وبين حصاد الزرع وجني الثمار ، بين الحلم والحقيقة ، بين رمي أحجار الأساس وبين استكمال البناء والانتفاع به وسكناه ، هذه المدة هي التي تفصل بين وفاة قصي بن كلاب في الحجون في مكة عام 480 م ، وبين قيام دولة قريش في يثرب على يد حفيده محمد بن عبد الله بن عبد المطلب ( ص ) بدءاً من عام 622م ، فقصي هو المؤسس الأول لتلك الدولة فهو الذي وضع اللبنات الأولى في صرحها ثم تابع أولاده وأحفاده من بعده ، على الأخص هاشم وعبد المطلب تعلية البنيان حتى اكتمل بمعرفة حفيده محمد ( ص ) ويتعين أن نلم بسيرة قصي ، لنحايثه في خطواته ، وهو يؤسس دولة قريش ويحولها من قبيلة مستضعفة تسكن الجبال والشعاب وأطراف مكة إلى القبيلة الحاكمة التي تمسك بزمام السلطة والثروة في العاصمة الدينية المقدسة ، وتسكن الأبطح أكرم بقاعها وتقيم بيوتها في الحرم ذاته ، وتغدو أشرف قبائل جزيرة العرب ، ويطلق على أفرادها " أهل الحرم " ويصبح الإصهار إليهم مكانة رفيعة تتطاول إليها أعناق شيوخ القبائل الأخرى ، وكما تحيط الشعوب في مختلف بقاع الأرض ميلاد زعمائها وقادتها بحكايات عجيبة خارقة للمألوف : الهنود مع بوذا وبنو إسرائيل مع موسى والنصارى مع عيسى أحاطت قريش ميلاد قصي بأسطورة مماثلة ولكنها ساذجة تتفق مع ثقافة عرب الجزيرة آنذاك ، وسوف نرى أن الأسطورة عينها تتكرر مع حفيده عبد المطلب أحد الذين لعبوا دوراً مميزاً في قيام دولة قريش . والحق أنني لم أجد فيما قرأت عن قصي ، خيراً مما خططه الإمام محمد ابن يوسف الصالحي الشامي ، وهو من مؤرخي القرن العاشر الهجري ، وربما أتاح تأخره النسبي الاطلاع على كتب التواريخ والسير ، منذ عصر التدوين حتى زمانه ، فألف موسوعة ضخمة في سيرة النبي العربي محمد ( ص ) أطلق عليها " سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد " وهذا ما جاء بها عن قصي بن كلاب : ( قال الرشاطي ـ رحمه الله تعالى ـ : وإنما قيل له قصي لأن أباه كلاب بن مرة كان تزوج فاطمة بنت سعد بن سيل ، لقب باسم جبل لطوله واسمه خير ضد شر، ويقال أن سعداً هذا أول من حلى السيوف بالفضة والذهب فولدت له زهرة وقصياً ، فهلك كلاب وقصي صغير ، وقال السهيلي رضيع ، وقال الرشاطي : فتزوج فاطمة أم قصي ربيعة بن حرام بن ضبة فاحتملها ربيعة ومعها قصي ، فولدت فاطمة لربيعة رزاحاً ، وكان أخاه لأمه ، فربى في حجر ربيعة فسمي قصياً لبعده عن دار قومه ، وقال الخطابي : سمي قصياً لأنه قصا قومه أي تقصاهم بالشام ، فنقلهم إلى مكة ، وقال الرشاطي : وأن زيداً وقع بينه وبين آل ربيعة شر فقيل له : ألا تلحق بقومك ؟ وعير بالغربة ، وكان لا يعرف لنفسه أبا غير ربيعة ، فرجع إلى أمه وشكا إليها ما قيل له ، فقالت : يا بني أنت أكرم نفساً وأباً ، أنت ابن كلاب بن مرة ، وقومك بمكة عند البيت الحرام ، فأجمع قصي على الخروج فقالت له أمه : أقم حتى يدخل الشهر الحرام ، فتخرج في حاج العرب ، فلما دخل الشهر الحرام خرج مع حاج قضاعة حتى قدم مكة ، فحج وأقام فعرفت له قريش قدره وفضله وعظمته وأقرت له بالرياسة والسؤدد ، وكان أبعدها رأيا وأصدقها لهجة وأوسعها بذلاً وأبينها عفافاً ، وكان أول مال أصابه مال رجل قدم مكة بأدم ( جلود ) كثير فباعه وحضرته الوفاة ولا وارث له فوهبه لقصي ودفعه له . وكانت خزاعة مستولية على الأبطح وكانت قريش تنزل الشعاب والجبال وأطراف مكة وما حولها ، فخطب قصي إلى حليل بن حبشية الخزاعي ابنته حـُبـَّى ، فعرف حليل نسبه فزوجه ابنته وحليل يلي الكعبة وأمر مكة فأقام قصي معه ، وولدت له حبى أولاده ، فلما انتشر ولده وكثر ماله وعظم شرفه ، هلك حليل وأوصى بولاية البيت لابنته حبى ، فقالت : لا أقدر على فتح الباب وإغلاقه ، فجعل ذلك إلى أبي غبشان واسمه المحترش بن حليل وكان في عقله خلل ، فاشترى قصي منه ولاية البيت بزق خمر وقعود ، فضربت به العرب المثل فقالت : أخسر صفقة من أبي غبشان . فلما أخذ قصي مفتاح البيت إليه ، أنكرت خزاعة ذلك ، وكثر كلامها وأجمعوا على حرب قصي وقريش ، وطردهم من مكة وماوالاها . فبادر قصي فاستصرخ أخاه وزاح بن ربيعة فحضر هو واخوته ، وكانت بنوصوفة تدفع الناس بالحج من عرفة إذا نفروا من منى ، فلم يجسر أحد من الناس أن ينفر ولا يرمي حتى يرموا ، فلما كان هذا العام فعلت بنو صوفة كما كانت تفعل ، فأتاهم قصي بمن معه من قريش وكنانة وقضاعة عند العقبة ، فقال لبني صوفة : نحن أولى بهذا منكم فقاتلوه ، فاقتتل الناس قتالاً شديداً وكثر القتل في الفريقين فانهزمت صوفة وغلبهم على ما كان بأيديهم من ذلك ، فانحازت خزاعة وبنو بكر عن قصي ، وعلموا أنه سيمنعهم كما منع من ذلك بني صوفة ، وأنه سيحول بينهم وبين الكعبة وأمر مكة فاجتمع لحربهم فخرجت خزاعة وبنو بكر ، فالتقوا واقتتلوا قتالاً شديداً ثم أنهم تداعوا إلى الصبح وأن يحكموا رجلاً من العرب فحكموا يعمر بن عوف بن كعب المعروف بـ " الشداخ " فقضى بينهم بأن قصياً أولى بالكعبة وأمر مكة من خزاعة ، وأن أي دم أصابته قريش من خزاعة ، موضوع يشدخه تحت قدميه ، وأن ما أصابته خزاعة وبنو بكر من قريش وبني كنانة ففيه الدية ، فودوا 520 دية ، و30 جريحاً وأن يخلي بين قصي وبين البيت فسعى يعمر بن عوف بـ " الشداخ " لما شدخ من الدماء ووضع . فولى قصي أمر الكعبة ومكة وجمع قومه من منازلهم إلى مكة ، فملكوه عليهم ، ولم تكن مكة بها بيت في الحرم ، وإنما كانوا يكونون بها ، حتى إذا أمسوا خرجوا ، لا يستحلون أن يصيبوا فيها جنابة ، ولم يكن بها بيت قديم . فلما جمع قصي قريشا ـ وكان أدهى من رئي من العرب ـ قال لهم : هل لكم أن تصبحوا بأجمعكم في الحرم حول البيت ؟ فوالله لا يستحل العرب قتالكم ولا يستطيعون إخراجكم منه ، وتسكنونه فتسودوا العرب أبداً ، فقالوا : أنت سيدنا ورأينا تبع لرأيك ، فجمعهم ثم أصبح في الحرم حول الكعبة ، وكان قصي أول بني كعب بن لؤي أصاب ملكا أطاع له به قومه ، فكانت إليه الحجابة والسقاية والرفادة والندوة واللواء ، وحاز شرف مكة كله جميعاً فسمي " مجمعاً " لجمعه قومه وفي ذلك قال الشاعر : أبوكم قصي كان يدعى مجمعاً : به جمع الله القبائل من فهر .وبنى دار الندوة والندوة في اللغة : الاجتماع لأنهم كانوا يجتمعون فيها للمشورة وغير ذلك ، فلا تنكح امرأة ولا يتزوج رجل من قريش ، ولا يتشاورون في الأمر ، إلا في داره ولا يعقدون لواء حرب إلا فيها يعقدها لهم قصي ، أو بعض بنيه . قال أبو عبيدة : ولما ولى قصي أمر مكة قال : يا معشر قريش إنكم جيران الله وجيران بيته وأهل حرمه ، وإن الحجاج زوار بيت الله فهم أضياف الله وأحق الأضياف بالكرامة أضياف الله فترافدوا فاجعلوا لهم طعاماً وشراباً أيام الحج حتى يصدروا ، ولو كان مالي يسع ذلك قمت به ، ففرض عليهم خراجاً تخرجه مرتين من أموالها فتدفعه إليه فيصنع به طعاماً وشراباً ولبناً وغير ذلك للحاج بمكة وعرفة ، فجرى ذلك من أمره حتى قام الإسلام ، قال السهيلي رحمه الله تعالى : وكان قصي يسقي الحجيج في حياض من أدم ينقل إليها من بئر ميمون وغيرها خارج مكة وذلك قبل أن يحفر - العجول ، وروى البلاذري عن معروف بن خربوذ وغيره قالوا : كانت قريش قبل قصي تشرب من بئر حفرها لؤي بن غالب خارج مكة ومن حياض ومن مصانع على رؤوس الجبال ، ومن بئر حفرها مرة بن كعب مما يلي عرفة ، فحفر قصي بئراً سماها " العجول " هي أول بئر حفرتها قريش بمكة ومنها يقول رجاز الحاج :نروي من العجول ثم ننطلق إن قصيا قد وفى وقد صدقبالشبع للناس وري مغتبق
ويروي أن قصياً قد أحدث وقود النار بالمزدلفة ليراها من دفع من عرفة .وقسم قصي مكارمه بين ولده : فأعطى عبد مناف السقاية والندوة فكانت فيهم النبوة والثروة ، وأعطى عبد الدار الحجابة واللواء وأعطى عبد العزى الرفادة والضيافة أيام منى ، فكانوا لا يجيزون إلا بأمره ثم مات قصي بمكة فأقام بنوه بأمر مكة بعده في قومهم ودفن بالحجون فتدافن الناس بعده بالحجون . أطلق الدكتور سيد القمني على قصي لقب " دكتاتور مكة " ولكننا نخالفه في ذلك فـ ( هو وصف نرى أنه لا ينطبق تماماً خاصة وأن الحياة القبلية في الجزيرة ـ جزيرة العرب ـ كانت لا تطيق الدكتاتورية ولعل هذا أوضح ما يكون فيما سمي بـ " أيام العرب " الذي يعد سجلاً للمعارك التي دارت بين القبائل العربية بعضها البعض ، أو بينها وبين بعض ملوك فارس ، وكان مرجعها النفور الشديد من أي ممارسة دكتاتورية ولو أن قصياً كان يتمتع بالشمائل التي امتاز بها مؤسسو الدول عادة من قوة الشكيمة ومضاء العزيمة ، بالإضافة إلى سعة الأفق ونفاذ البصيرة ) .. ولعل القارئ يلاحظ ما وصف به الإمام محمد بن يوسف الصالحي قصياً ، أنه كان أدهى من رئى من العرب - ولسنا في حاجة إلى التدليل على تلك الملكات التي تمتع بها المؤسس الأول قصي . ومنعاً للإطالة ، خاصة وأن النص الذي نقلناه من كتاب " سبيل الهدى الرشاد في سيرة خير العباد " قد استغرق حيزاً كبيراً ، نكتفي في إيجاز بالإشارة إلى الخطوات التي رسمها ونفذها قصي بدهاء شديد نحو تحول قريش من قبيلة مشتتة ومتفرقة لا مكانة لها إلا رؤوس الجبال ، إلى قبيلة قوية تسكن أحسن بقعة في مكة ، وهي " الأبطح " والاتجاه إلى تكوين أول دولة غربية في وسط شبه الجزيرة العربية : ( أ ) أول ما فعله هو أنه أصهر إلى رأس قبيلة خزاعة وسيد مكة ، صاحب ولاية الكعبة حليل بن حبشية الخزاعي في ابنته " حبى " ثم توصل إلى ولاية الكعبة ، البيت الحرام الذي تعظمه قبائل جزيرة العرب على بكرة أبيها ، وكان القسم به هو اليمين الحاسمة التي يحرم الحنث فيها :فأقسمت بالبيت الذي طاف حوله رجال بنوه من قريش وجرهمولما أدركت خزاعة خطورة هذا الأمر ، لأن الذي يمسك بولاية الكعبة يحكم مكة عزمت على قتاله فاستعان بأخيه من أمه رزاح بن ربيعة فأعانه واخوته على ذلك ، ثم انتزع من بني صوفة الوظيفة الدينية التي كانت بيدهم وهي دفع الحجاج من عرفة بعد معركة طاحنة ، وقصي ( هو أول من جدد بناء الكعبة من قريش بعد إبراهيم ) وهيمن على حجابة البيت وسقاية الحجاج والرفادة وفرض على قريش خراجاً تدفعه إليه من أموالها فيصنع به طعاماً وشراباً للحجاج في مكة وعرفة ، وهو لم يكتف بذلك بل حفر بئراً سماها " العجول " لسقي الحاج والمعتمر كما أمر بإيقاد النيران على جبال ومرتفعات المزدلفة ليراها من دفع من عرفة كل هذا يدل على أن قصياً أولى " الحج " عناية فائقة ، لأنه الملتقى السنوي لقبائل جزيرة العرب كافة ، من شتى أقطارها وفيه تروج التجارة وتنعقد عدة " أسواق " قرب مكة وما حولها مثل سوق عكاظ وذي المجنة وفيها - علاوة على التجارة - كان يتبارى الشعراء في عرض قصائدهم فالحج إذن موسم ديني تجاري ثقافي ، وكانت ممارسات قصي تلك التي ذكرناها بمثابة إعلان للعرب أن دولة مركزية قامت في مكة وإعلام أن قريشاً تحولت من قبيلة مستضعفة إلى دولة تحكم البيت الحرام ، وفي سبيلها إلى حكم الجزيرة كلها ، عن طريق جمع شمل كل القبائل تماماً مثلما للفرس دولة وللروم دولة . وثمة ملاحظة في هذا المقام وهي أن هذه الخطوة المبكرة من قبل قصي في الاهتمام بشعيرة الحج وهي من الشعائر القليلة إن لم تكن الشعيرة الوحيدة التي كانت موضع إجماع من قبائل الجزيرة حتى تلك التي كان يفشو فيها دين سماوي مثل اليهودية والنصرانية ـ هذه الخطوة المبكرة من قبل قصي كانت الالتفافة الأولى لأهمية " المقدس " واستخدمه كمدماك لشد أزر " الدولة " وهو ما سيواصل العمل به في طريقه ، أحفاده من بعده باقتدار عجيب . ( يهتم علم الاجتماع الديني اهتماماً كبيراً ، بدراسة العلاقة بين الدين وبعض مجالات الحياة الاجتماعية كالعلاقة بين الدين والنظام الاقتصادي والكنيسة والدولة والدين والسياسة ، والدين والأسرة ...الخ ) وكانت وجهة نظر علماء الأنثروبولوجية هي تبيان وظيفة الدين في المجتمعات القديمة أو البدائية أو اللاكتابية أو الأمية سواء في البني التحتية أو البنى الفوقية ( لقد أوضح الأنثروبولوجيون اللاحقون أمثال مالنسكوفي وراد كليف براون في دراساتهم الحقلية ، أن الدين يمارس وظيفة هامة في المجتمعات البدائية هي تدعيم التماسك الاجتماعي وضبط سلوك الأفراد ) . هذا هو أثر الدين في الأنساق الاجتماعية القاعدية ، ولكن ما هو أثره على البني السلطوية ؟ أو بمعنى آخر ما هي العلاقة بين الدين والسلطة ؟ وما هو موقع استراتيجية المقدس من استراتيجية السلطة ؟ ( المقدس هو أحد أبعاد الحقل السياسي ويمكن أن يكون الدين أداة للسلطة ضماناً لشرعيتها ، وإحدى الوسائل المستخدمة في إطار المنافسات السياسية ) ( جورج بالاندييه في الأنثروبولوجيا السياسية ، ترجمة جورج أبي صالح ، ص 93 الطبعة الأولى 1986 ، منشورات مركز الإنماء القومي بيروت ) ، وقد أوضحت الدراسات التي أجريت على كثير من المجتمعات القديمة ( أن البنى الطقوسية والبنى السلطوية مرتبطة ارتباطا وثيقاً وأن ثمة اتصالاً بين دينامياتهما الخاصة ) ( وأن السلطة السياسية تملك السيطرة العامة على المقدس وتستطيع استخدامه لصالحها في جميع الأحوال ) . إذن بدأ قصي في السير في طريق استخدام الدين ، واستثمار المقدس في أمرين : ( أ ) نشر التماسك بين قبائل العرب عن طريق شعيرة الحج باعتبارها الشعيرة المجمع عليها من القبائل كافة بخلاف الأصنام التي كانت تتعدد فيها ، ثم الانتقال من وتيرة التماسك إلى مرحلة التوحيد تحت هيمنة قريش .( ب ) توظيفه كرافعة شديدة الفعالية وذات أثر سحري في النفوس في يد السلطة والإلحاح على هذه الدعوى حتى ترسخت وأصبح القرشيون ذاتهم شخوصاً مقدسة أو على أقل القليل تخالطهم قداسة ملموسة ومن ثم أطلق عليهم " أهل الحرم " ومن البديهي أن شيخهم أو رئيسهم يتمتع بقدر أوفر من القداسة ولذلك ليس اعتباطاً ما قاله المؤرخون عن قصي بن كلاب " كان أمره في قريش في حياته ومن بعد موته كالدين المتبع فلا يعمل بغيره " وصار توظيف الدين سنة من بعده ، اتبعها أبناؤه وأحفاده بذكاء بالغ . ثانياً : جمع بطون أفخاذ قبيلة قريش التي كانت مستضعفة ومشتتة تسكن الشعاب ورؤوس الجبال وأطراف مكة ، وأتاح لها سكنى أشرف بقعة في البلد الحرام " الأبطح " ومن ثم سمى " مجمعاً " وبعد ذلك خطا خطوة جريئة ، وهي أنه أمرهم أن يبنوا بيوتهم في الحرم ، وحول البيت وعلله بجملة وردت على لسانه كشفت عما كان يخطط له وهي قوله " فوالله لا تستحل العرب قتالكم ولا يستطيعون إخراجكم فتسودوا العرب أبداً " فأجابوه لذلك وسيادة قريش لكل العرب كان هو الهاجس الأقوى الذي ملك على قصي لبه وعقله وكل تفكيره والهدف الذي نذر حياته له ، ومن ثم أخذ يحكم التدبير له ، ثم أكمل الخطة من بعده ، أولاده وأحفاده والسيادة على عرب الجزيرة لا تتم إلا بإنشاء دولة مركزية في مكة على غرار الروم والفرس . ثالثاً : بنى قصي دار الندوة وفيها كانت تتم المشاورات لا بين شيوخ قريش فحسب ، بل بين شيوخ القبائل الأخرى ( فكان بيته عبارة عن " ناد للعرب " بل ملجؤهم في جميع المشكلات سواء كانت هذه المشكلات قومية أو شخصية ) ولم تكن دار الندوة للشورى فقط ، بل كانت جميع الأمور الهامة تتم بين جدرانها : عقد أولوية الحرب ، خروج قوافل التجارة ، إبرام عقود النكاح ، وبذلك عدت دار الندوة مقراً للحكم المركزي الوليد ، إذ لم يحدثنا التاريخ العربي عن دار مثلها في أي بقع في جزيرة العرب وهذا كله يفسر لنا مقولة التي كررها الإخباريون كثيراً عن قصي أنه " أول من أصاب ملكاً أطاع به قومه " .وهذا ما أجمع عليه الاخباريون بلا خوف .فكان قصي أول رجل من بني كنانة أصاب ملكا وأطاع له قومه فكانت له الحجابة والرفادة والسقاية والثروة واللواء والقيادة فلما جمع قصي قريشاً بمكة سمي مجمعاً
الخلائــف يواصلون المسيرة
أولاً: هاشم : يوضح القسمات من عادة العرب أن يختص الأب ابنه الأكبر ، بكرائم ما خلفه من منصب أو جاه أو غيره على سائر أبنائه باعتباره " ولي العهد " ، ولا زالت هذه العادات متأصلة في المجتمع العربي حتى الآن ، وهي ليست مقصورة على العرب وحدهم بل أنها موجودة في كثير من المجتمعات ويطلق عليها علماء الاجتماع " التعاقب " وهو انتقال حقوق المنصب والدرجة والجاه والوضع ، ويؤكد د . مصطفى الخشاب أن بقايا هذه الظاهرة ( ورواسبها موجودة في كثير من المجتمعات المعاصرة مثل وراثة المهنة والوضع الاجتماعي ووراثة الفرق الدينية ومشايخ الصوفية والطوائف الحرفية وما إليها ) وجرياً على هذه القاعدة جعل قصي إلى بكره عبد الدار : الحجابة والرفادة والسقاية واللواء والندوة ، ويرى الإخباريون أنه فعل ذلك حتى يسامي عبد الدار اخوته في الشرف ، إذ أنهم في حياة أبيهم ارتفعت مكانتهم الاجتماعية في قريش دونه ، ولم يستطع هؤلاء أن يعارضوا أباهم صاحب الكلمة النافذة خاصة وأن ذلك كان تقليداً عربياً مستقراً كما ذكرنا ، ولكن الجيل الذي خلفهم تمرد على هذا الوضع وثار عليه، بعد أن انتقلت تلك المآثر التي اختص بها قصي عبد الدار إلى بنيه من بعده ، ويبدو أنه ورثهم معها الخمول وعدم نباهة الذكر ، ولذلك فإن هاشم وعبد شمس والمطلب ونوفل بن عبد مناف أجمعوا أن يأخذوا من بني عبد الدار بن قصي ما كان قصي جعله إلى عبد الدار من الحجابة واللواء والرفادة والسقاية والندوة ورأوا أنهم أحق بها منهم لشرفهم عليهم وفضلهم في قومهم، وكان الذي قام بأمرهم هاشم بن عبد مناف ) .
أنقسمت قريش إلى ثلاثة فرقاء : أولهم انحاز إلى بني عبد الدار والآخر إلى بني عبد مناف والثالث وقف على الحياد وسمي بنو مناف ومن والاهم بـ " المطيبين " وسمي بنو عبد الدار ومن آزرهم بـ " الأحلاف أو لعقة الدم " واستعد كل فريق لحرب الآخر ، ولكنهم أخيراً تداعوا إلى الصلح واتفقوا على أن يأخذ بنو مناف السقاية والرفادة والباقي يظل في أيدي بني عبد الدار .
لقد أمعنت النظر في هذه القسمة ، وتساءلت : كيف يترك لـ " بني عبد الدار " وهم الأقل شرفاً والأخفض مكانة والأدنى منزلة ، الوظائف السياسية والعسكرية الهامة مثل : اللواء والندوة ويكتفي " بنو عبد مناف " بـ " الرفادة والسقاية " وهما عملان أصغر مرتبة ، ولا يدخلان في بابي السياسة والحرب ، وفيم إذن كان الشقاق الذي كاد أن يرتفع إلى حد امتشاق السيوف وإراقة الدماء ؟؟؟
توصلت إلى إجابة لعلها تكون صحيحة :بادئ ذي بدء ، المجتمع العربي في الجزيرة كان ولا يزال حتى الآن وإن بصورة أبهت ، يقدر الكرم ويعتبره فضيلة يعلي من شأن من يتحلى بها ويضعه في مكان أعلى ، والسقاية والرفادة وظيفتان لحمتاهما الجود وسداهما البذل والعطاء ومن ثم فإن القائم بهما تلهج بذكره والثناء عليه ركبان الحجيج و المعتمرين .هذه واحدة . أما الأخرى فهذان العملان يتصلان مباشرة بشعيرة الحج التي تقدسها العرب ، وتؤديها قبائل شبه الجزيرة العربية كافة ، بمقولة أنها من إرث إبراهيم وولده إسماعيل ، الجد الأعلى للعرب المستعربة ، حتى القبائل التي فشت فيها اليهودية والنصرانية يحدثنا الإخباريين أنها كانت تحج .
الحج فريضة دينية ، والدين رافعة من أهم الروافع التي أولاها مؤسسو دولة قريش عناية فائقة ورعاية مكثفة وقد بدأ هذا الاتجاه " قصي " ، المؤسس الأول كما فصلنا القول فلما انتقلت الراية إلى هاشم ، سار على الدرب نفسها ، وتعمق على يد عبد المطلب وازداد ضوحاً ، بل أصبح " الدين " هو الفعالية الأولى ، لإنشاء دولة قريش على يد الحفيد محمد عليه السلام من هذا المنطلق كان رضاء هاشم قائد بني عبد مناف بـ " السقاية والرفادة " .
أما اللواء فإن قريشاً قبيلة تجارة في المقام الأول ، وإن نبغ فيها أبطال حرب قبل الإسلام وبعده . أما الندوة فسوف نعرف فيما يلي أن هاشماً وضع يده عليها في هدوء ودون جلبة ، واتخذها مقراً للحكم كما كان يفعل جده " قصي " هذا بالإضافة إلى أن دار الندوة وإن كانت مملوكة لبني عبد الدار فهي مشاع لمشيخة قريش يجتمعون فيها ، بل أن بعض الباحثين يرى أنها كانت نادياً للعرب جميعهم . أما الحجابة فهي أشبه بالعمالة الإدارية ، حقيقة أن من يتولاها تكون في يده مفاتيح الكعبة ، كعبة مكة ، أقدس الكعبات في الجزيرة العربية آنذاك ، ولكن فتح الكعبة وغلقها مسألة ليست ذات خطر ، فالطواف حولها والدعاء عندها والذبح للأصنام والاستقسام بالأزلام بجوارها ، كل ذلك كان يتم سواء كانت مفتوحة أو مغلقة رضى حاجبها أم سخط فالحجابة إذن عمل شرفي لا فعالية له . هذا في رأينا اختيار " بني عبد مناف " وزعيمهم هاشم لتينك المأثرتين : الرفادة والسقاية ، وإطلاق أيدي " بني عبد الدار " فيما خلاهما .*****
( كان هاشم موسراً ، إذا حضر الحج قام صبيحة هلال ذي الحجة فيسند ظهره إلى الكعبة من تلقاء بابها فيخطب قريشاً ويحض على رفادة الحاج التي سنها قصي ، فكانت بنو كعب بن لؤي وسائر قريش يجتهدون في ذلك ، ويترافدون ويخرجون ذلك من أموالهم حتى يأتوا به هاشماً ، فيضعه في داره وكان يأمر بحياض من أدم ، فتجعل في موضع زمزم قبل أن تحفر فيستقي فيها من البيار التي بمكة فيشرب الحج وكان يطعمهم بمكة قبل التروية بيوم ثم بمنى وجمع وعرفة ، يثرد لهم الخبز واللحم والجبن والسمن والسويق والتمر ، ويحمل لهم الماء فيطعمهم ويسقيهم حتى يصدروا أي يرجعوا ) . هكذا نرى هاشماً يهتم بأمر الحاج الوافد على مكة ، فيطعمه ويسقيه ويدفع القرشيين إلى المساهمة في دفع تكاليف الرفادة كل حسب طاقته ، وتبدأ هذه الضيافة في اليوم السابع من هلال ذي الحجة أي قبل يوم التروية وهو اليوم الثامن ويستمر ذلك حتى يصدر الحاج أي يعود إلى بلده ويتتبعه في أماكن تواجده : مكة ومنى وجمع عرفات وكان الطعام الذي يقدم إليه من أجود الأنواع أما الماء فكان يجلبه له من جميع بيار مكة ( لم تكن زمزم قد حفرت بعد ، إذ المعروف أن الذي حفرها هو عبد المطلب ) وحفر هاشم لهذا الغرض بيراً سميت بـ " بذر " وكان ( هاشم يخرج في كل سنة مالاً كثيراً ) . إن اهتمام هاشم بحجاج البيت الحرام فضلاً على دلالته سجية الكرم المتأصلة فيه ، وحثه القرشيين على المساهمة في الرفادة ، يقطع بوعيه التام ، بما في ذلك من إعلام للحجاج الذين يقصدون مكة من شتى نواحي شبه الجزيرة العربية ، أن في مكة حكومة تبسط سلطانها على المدينة المقدسة ، وأنها جديرة بحكم العرب الجزيرة كلهم ، والإحساس العميق بسيادته على مكة امتداداً للسلطان الذي أسسه جده قصي ، ولإشعار جميع من فيها بهذه الهيمنة وعندما حدثت فيما بعد مجاعة سافر إلى الشام ( غزة بفلسطين ) واشترى دقيقاً كثيراً فأمر به ، وعمل ثريداً هشم وأطعم المكيين ومن ثم سمي هاشماً إذ أن اسمه عمرو وقد سجل الشاعر هذه الواقعة في قصيدة منها :عمرو العلا هشم الثريد لقومه ورجال مكة مسنتون عجاف(مسنتون إي أصابتهم سنة مجاعة ) ولا نريد أن نكرر ما سبق أن قلناه إن عناية هاشم بأمر الحجيج وتيسير شعيرة الحج لكل العرب الجزيرة العربية حتى الفقراء منهم بإمدادهم بالطعام الجيد والماء الوفير لهم طوال موسم الحج ، تأكيد من جانبه أن الدين ركيزة متينة من ركائز دولة قريش ، وهذا المنهج استنه كما ذكرنا في البحث الخاص بـ " قصي " ، قصى نفسه ، وقد سار على هذه الوتيرة من بعد هاشم ابنه عبد المطلب بل توسع فيها كما سيجيء في الكلام عليه ، ثم جاء من بعدهم الحفيد محمد ( ص ) فغدا على يديه " الدين " هو شعار دولة قريش التي أقامها في يثرب . ******
إذا كان قصي هو الذي أرسى حجر الأساس لـ " دولة قريش " فإن هاشماً هو الذي أوضح معالمها وأبرز قسماتها وظل دوره فعالاً حتى إنشائها على يد حفيده محمد عليه السلام ، ذلك أن هاشماً كان صاحب نظرة شمولية بمعنى أن نشاطه المتوثب والمتولد عن همة عالية امتد لأكثر من ناحية في تدعيم الدولة التي كانت في طور البروز فبدأ بـ " الاقتصاد " الذي هو عماد أي دولة فقد حول تجارة مكة من المحلية ( ذلك أن قريشاً كانوا قوماً تجاراً ، وكانت تجارتهم لا تعدو مكة ، إنما يقدم الأعاجم بالسلع فيشترون منهم ويتبايعون فيما بينهم ، ويبيعون من حوله من العرب ، فلم يزالوا كذلك حتى ذهب هاشم إلى الشام ، وطلب من قيصر أماناً لقومه ليقدموا بلاده لتجاراتهم فأجابه لذلك ، وكتب لهم قيصر كتاب أمان لمن أتى بهم ، فأقبل هاشم بذلك الكتاب ، فكلما مر بحي من أحياء العرب أخذ من الأشراف إيلافاً لقومه ، يأمنون به عندهم وفي أرضهم من غير حلف ، إنما هو أمان الطريق واستوفى أخذ ذلك ممن بين مكة والشام ، فأتى قومه بأعظم شيء أتوا به بركة فخرجوا بتجارة عظيمة ) .
( وقال الرشاطي : كانت قريش تجارتهم لا تعدو مكة حتى نشأ هاشم بن عبد مناف ، وربل وعظم قدره ) . ثم يسوق الصالحي قصة ركوب هاشم إلى الشام ودخوله على قيصر فـ ( كلمه فأعجبه كلامه ، وأعجب به وجعل يرسل إليه ويدخل عليه ) وأخذ منه كتاب أمان لمن أتى منهم إلى البلاد ، وأخذ الإيلاف من أشراف القبائل ما بين مكة والشام فكان ذلك أعظم بركة ( ثم خرجوا أي القرشيون بتجارة عظيمة وخرج هاشم معهم يجوزهم ويوفيهم إيلافهم الذي أخذلهم من العرب ، فلم يبرح يجمع بينهم وبين العرب حتى ورد الشام ) ، ولم يكتف هاشم بذلك بل دفع إخوته الثلاثة إلى أن يأخذوا أماناً ويعقدوا عقوداً مع سائر الملوك الذين كانوا على حوافي جزيرة العرب فـ ( خرج المطلب بن عبد مناف ) وهو يسمى الفيض لسماحته وفضله إلى اليمن ، فأخذ من ملكهم أماناً لمن تجر من قومه إلى بلادهم ، ثم أقبل يأخذ لهم الإيلاف ممن كانوا على طريقه من العرب ، وخرج عبد شمس بن عبد مناف إلى ملك الحبشة فأخذ منه أماناً كذلك لمن تجر من قربش إلى بلاده ، ثم أخذ الإيلاف من العرب الذين على الطريق وخرج نوفل ابن عبد مناف وكان أصغرهم إلى العراق أخذ عهداً من كسري لتجار قريش ثم أقبل يأخذ الإيلاف ممن مر به من العرب ، فجبر الله قريشاً بهؤلاء النفر الأربعة من بني عبد مناف فنمت تجارتهم واتسعت تجارتهم ، فكان بنو مناف يسمون لذلك " المجيرين " أو " المجيزين " والعرب تسميهم ( أقداح النضار ) لطيب أحسابهم وكرم أفعالهم ) .
بهذا تحولت مكة من قرية صغيرة من قرى القوافل يقنع أهلها بما تنقله القوافل التي تمر بها من بضائع يتجرون فيها مع جيرانهم في يثرب والطائف وأعراب البوادي والوافدين للحج والعمرة ، إلى مدينة كبيرة لها علاقات تجارية مع أكبر القوى الاقتصادية المحيطة بها ، وفي مقدمتها الدولتان العظيمتان في ذلك الزمان : فارس والروم . كذلك نمت ثروات سادات قريش وعظم مالهم ، الأمر الذي سارع في تفكيك البنية القبلية ، ونمى فيهم روح الملكية الخاصة والفردية ، بدلاً من الملكية المشاعية أو شبه المشاعية التي تتميز بها الحياة القبلية ، كل هذا ساعد على بذر بذور الحياة المدينية التي تحتم وجود حكومة تضبط أمورها ولم تعد سلطة شيخ القبيلة كافية ولا مناسبة للحياة الجديدة مما ساعد على قبول فكرة حكومة مركزية تهيمن على المدينة المقدسة ، التي غدت بذلك أو إلى جانب ذلك مدينة التجارة العالمية والثروات الواسعة ، التي لم يكن للعرب عهد بها قبل ذلك فضلاً عن أن ذلك أفرز أيضاً آثاراً جانبية مثل انقسام المجتمع الملكي إلى ملأ يملكون المال الوفير وإلى فقراء حتى من قريش ذاتها بعد نماء الثروات لذلك الحد، وكل هذا سوف يكون موضع دراسة موسعة إلى حد ما في الأبحاث القادمة .
والإيلاف الذي أخذه الأبناء الأربعة ـ علامة على عهود الأمان التي أعطاها لهم الملوك ـ كان له أثر كبير في حركة قوافل قريش داخل الجزيرة ، في الطريق من وإلى الشام والعراق واليمن والحبشة ، ذلك أن القبائل كانت تسترزق من نهب القوافل التي تمر بأرضها ، ولكن الإيلاف منعهم من ذلك ( فكان التجار قريش يختلفون إلى الأمصار بحبل هؤلاء الإخوة فلا يتعرض لهم ) وفي تفسير الإيلاف قال الخليل بن أحمد الفراهيدي : آلف يؤالف وقال الأزهري : الإيلاف شبه الإجارة بالخفارة ، وسواء كان هذا أم ذاك فإن الإيلاف ضرب من المال ، يدفع طواعية كهدايا أو منح لرؤساء القبائل التي تمر بحرمها القوافل التجارية القرشية ، ولكن يمتنع في الإيلاف عنصر الالتزام أو الإكراه لمكانة بني مناف الأربعة لدى أولئك الرؤساء ولأن العرب كانت تعظم القرشيين وتدعوهم " أهل الحرم " ويرى الإمام محمد بن يوسف أن ( الإيلاف أن يأمونا عندهم وفي طريقهم وأرضهم بغير حلف إنما هو أمان الطريق ) ، ويوافقه على ذلك الفيروز آبادي وذهب إلى أن الإيلاف الذي جاء في سورة قريش هو العهد وأن اللام في ( لإيلاف قريش ) للتعجب أي اعجبوا لإيلاف قريش ، وبعد أن ذكر الايلافات التي أخذها الاخوة الأربعة بنو عبد مناف أضاف ( وكان تجار قريش يختلفون إلى هذه الأمصار : الشام ، الحبشة ، اليمن ، فارس ، بحبال هذه الأخوة فلا يتعرض لهم وكأن أخ أخذ حبلاً من ملك ناحيه سفره أماناً له ) . ويؤكد الفيروز آبادي ذلك بقوله ( وتأويله أنهم كانوا سكان الحرم آمنين في امتيارهم وتنقلاتهم شتاء وصيف والناس يتخطفون من حولهم فإذا عرض لهم عارض قالوا : نحن أهل حرم الله فلا يتعرض لهم أحد ) .
وعودتنا إلى ذكر الإيلاف مرة أخرى ، هو تبيان هدف آخر بخلاف الغرض الظاهر ، حماية قوافل قريش وتجاراتها ، ونعني به هو أن قريشاً بهذه الإيلافات قد غدت متميزة عن سائر العرب ، إذ أن القبائل كانت تستقضي جعلاً من كل من يمر بحماها أو أرضها ، حتى كسري نفسه عندما كان يبعث بتجارة داخل الجزيرة العربية كان يدفع جعلاً لكل قبيلة تمر هذه التجارة بأرضها برغم أنها كانت محروسة بـ " أساورة " كسرى ، أي جنوده الأشداء ، وعندما كان يتقاعس كسرى لأي سبب أو لآخر عن دفع " الجعالة " لأي قبيلة تمر بها قافلة ، كانت القبيلة تعتدي عليها ، وقد حدث أن قافلة لكسرى مرت بأرض قبيلة لم تدفع الجعالة المعهودة قام بنو تميم بنهبها ، وأسر جنود كسرى " الأساورة " بل أنهم أسروا ( هوذة بن علي ) وكان ملكاً على قبيلة بني حنيفة ولم يفكوا أسره إلا بعد أن دفع دية مضاعفة .
إن نجاح هاشم بن عبد مناف وإخوته الثلاثة في عقد هذه الإيلافات التي ينتفي منها - كما قلنا - عنصر الإكراه والتي هي ليست أحلافاً ، ورضا رؤساء القبائل بها دليلاً لا يقبل الشك على علو مكانة هاشم وبني عبد مناف وارتفاع نجمهم في الجزيرة ، وشعور شيوخ القبائل بأن وضعاً جديداً يتبلور في مدينة القداسة " مكة " ، خاصة وأن هؤلاء الرؤساء لم يعطوا الإيلافات إلا بعد أن أطلعوا على كتب الأمان التي حررها ملوك فارس والروم واليمن ، ولابد أنهم تساءلوا في قرارة أنفسهم : هل يعطي الملوك مثل هذه الكتب إلا لمن بلغ شأوا بعيداً في السؤدد والسلطان ، واستن هاشم رحلتي الشتاء والصيف الأولى إلى اليمن والحبشة ، والأخرى إلى الشام وفلسطين وكلا من الإيلاف وهاتين الرحلتين ورد ذكره في القرآن الكريم في سورة قريش وفي الشعر :سنت إليه الرحلتان كلاهما سفر الشتاء ورحلة الأصياف واهتم هاشم أيضاً بتوثيق العلاقات الدبلوماسية مع الممالك الواقعة على أطراف الجزيرة فكان ( يدخل على قيصر فيكرمه ويحبوه ) ..( وخرج أخوه عبد الشمس إلى النجاشي بالحبشة وخرج أخوهما نوفل إلى الأكاسرة بالعراق وخرج المطلب إلى حمير باليمن ) . هذه السفارات الدبلوماسية لملوك الأرض المعروفين آنذاك ، كانت موضع إعجاب وتقدير شديدين من العرب قاطبة ، فقال منهم عبد الله بن الزبعري وقيل بل هو أبوه :يأيها الرجل المحول رحله هلا نزلت بآل عبد منافالآخذون العهد من أفاقها والراحلون لرحلة الإيلاف .والشعراء في ذلك الزمان كانوا هم أهل الثقافة ورجال الإعلام وألسنة القبائل .
وذكر الإمام محمد بن يوسف الصالحي الشامي رواية موجزها أن قيصر بعث إليه ليتزوج ابنته وسواء صحت هذه الرواية أم بطلت فالأمر الثابت أن هاشماً كان يفد على ملك أو إمبراطور الروم فيكرمه ويحبوه ، بل بلغ تقديره إياه أنه ( كتب إلى النجاشي أن يدخل قريشا في أرضه ) وقرأنا أخبار إرساله إخوته سفراء لباقي الملوك .والذي يفعل ذلك مع الملوك الذين يقابلونه بالتكريم ، لابد أنه قد بلغ مرتبة حاكم المدينة المقدسة ، لا مجرد شيخ قبيلة من عشرات القبائل التي تعج بها الجزيرة العربية ، وهذه الحقيقة بلغت أولئك الملوك عن طريق جواسيسهم في مكة الذين كانوا يتزينون بزي التجار .ولقد قيم حبر الأمة الصحابي الجليل عبد الله بن عباس ، جده هاشماً تقييماً صحيحاً أوضح دوره في بناء دولة قريش فقال روى البلاذري عن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ قال : والله لقد علمت قريش أن أول من أخذ لها الإيلاف وأجاز العيرات لهاشم والله ما أخذت قريش حبلاً لسفر ، ولا أناخت بعيراً لحضر إلا بهاشم ) . ******* وثق هاشم أيضا صلاته الداخلية ، بأن أصهر إلى العديد من القبائل الكبيرة المشهورة ، فتزوج سلمى بنت عمر بن زيد سيد بني عدي بن النجار من الخزرج بـ " يثرب " ، وكانت امرأة حازمة جلدة مع جمال ، رآها تتاجر بنفسها في سوق النبط فأعجبته وكانت تتأبى على الخطاب بعد طلاقها من زوجها الأول ولكن لما علمت أنه سيد مكة زوجته نفسها ) . كذلك تزوج هند بنت عمر من بني الخزرج ، وهكذا ارتبطت قريش بأهل يثرب برباط متين وسوف تزداد هذه الرابطة شدة على يد عبد المطلب ، أما علاقة محمد(عليه السلام) بـ " اليثاربة " فمعروفة هذا يدعونا إلى القول بأن نشوء دولة قريش في تلك المدينة لم يكن مصادفة تاريخية بحت ، وهذه مسألة جديرة بالبحث والتمحيص من قبل علماء التاريخ الإسلامي المحدثين الذين مازال أغلبهم يمر على هذه المسائل الحساسة مروراً عابراً مكتفياً بالتعليلات الغيبية التي ذكرها مؤرخو الإسلام القدامى مثل قولهم : ( لما أراد الله بالخزرج والأوس الكرامة قيض لهم مقابلة محمد بمنى في موسم حج فعرض عليهم الإسلام فآمنوا … ) هكذا دون بحث الأسباب الموضوعية الكامنة وراء استجابتهم السريعة لدعوة محمد عليه السلام ، مثل مجاورتهم لليهود وسماعهم منهم نظرية ( النبي المنتظر ) وكوجود علاقات قديمة تمتد لعشرات السنين بين قريش وأهل يثرب .
ألم يفكر هؤلاء المؤرخون المحدثون في المقارنة بين سبب رفض ثقيف التي تقطن الطائف وهي أقرب إلى مكة من يثرب للإسلام ومحاربتها إياه بشراسة حتى إنهم قتلوا أحد زعمائهم وهو " عروة بن مسعود " عندما دعاهم إليه ، وقبلها صمدوا لجيش الرسول محمد عليه السلام ولحصاره قريتهم حتى عاد أدراجه إلى المدينة انتظاراً لفرصة أخرى ، وبين قبول الأوس والخزرج لديانة الإسلام بسهولة ويسر يلفتان النظر ؟؟
إن القول بأن ذلك مرجعه لتمسك ثقيف بمعبوديهم " الطاغية " غير كاف لأن الأوس والخزرج لم يكونوا أضعف إيماناً بأربابهم أو آلهتهم من أهل الطائف . إذن لابد من تقصي الأسباب الموضوعية التي غفل أو تغافل عنها المؤرخين ، وهو ما يعزز الدعوة إلى إعادة كتابة التاريخ الإسلامي بموضوعية وعقلانية والنأى عن عهد التعليلات التي تعتمد على الغيبيات والماورائيات والأساطير . بعد هذه الاستطرادات نعود إلى هاشم ودأبه على تمتين علاقاته في الداخل بالأصهار إلى أمهات القبائل في جزيرة العرب :فقد تزوج أيضاً : أم قيلة فهي " الجزور " بنت عامر من خزاعة ، أميمة بنت عدي من قضاعة ، وواقدة " أم عبد الله " بنت عدي من صعصعة وعدي بنت حبيب من ثقيف ، وصار الإصهار إلى كبريات القبائل من بعد هاشم سنة أتبعها خلفاؤه من بناة " دولة قريش " مثل ابنه عبد المطلب وحفيده محمد ( ص ) الذي تحقق على يده الحلم وتحول إلى واقع وبرزت إلى الوجود دولة قريش في يثرب . *****
وكان من رأي هاشم أن العدالة الاجتماعية مطلب ملح لإقامة دولة قريش لذا حرصه عليها وعلى تحقيقها على أرض الواقع شديداً ، فقد رأينا حثه قريشاً على الإسهام في تكاليف الرفادة التي يستفيد منها بالدرجة الأولى فقراء العرب من الحجاج .ولم يكن حرص هاشم على تكريس العدالة الاجتماعية ففي موسم الحج فحسب بل في داخل مكة وبصفة مستمرة لا موسمية . يقول الإخباريين أنه كانت توجد بين العرب عامة وقريش خاصة عادة تسمى الاحتفاد ( أن أهل البيت منهم كانوا إذا سافت يعني هلكت أموالهم خرجوا إلى براز من الأرض فضربوا على أنفسهم الأخبية ثم تناوبوا فيها حتى يموتوا ، خوفاً من أن يعلم بخلتهم أي فقرهم ) فأبطل هاشم هذا التقليد الخبيث وقال لقريش ( رأيت أن أخلط فقراءكم بأغنيائكم فأعمد إلى رجل غني فأضم إليه فقيراً بعدد عياله ) وفي نظر الإمام القرطبي : " أن تلك العادة كانت تسمى " الاعتفار " وتفسير هذه الكلمة عنده : ( أنه إذا أصابت واحداً منهم مجاعة جرى هو وعياله إلى موضع معروف فضربوا على أنفسهم خباء حتى يموتوا اتقاء لمرة التسول ومد اليد إلى الغير وأنفة من طلب الإحسان من القريب أو الغريب وهو تفسير الصالحي عينه . وحدث أن أسرة من بني مخزوم شرعت في الاعتفار فبلغ ذلك هاشما ففزع أشد ما يكون الفزع ( فقام خطيباً في قريش وكانوا يطبعون أمره فقال : أنكم أحدثتم حدثاً تقلون فيه وتكثر العرب وتذلون وتعز العرب وأنتم أهل حرم الله جل وعلا وأشرف ولد آدم والناس بكم ويكاد هذا الاعتفار يأتي عليكم فقالوا نحن لك تبع فقال ابتدئوا بهذا الرجل ـ يعني الذي اعتفر ـ فأغنوه عن الاعتفار ففعلوا )
ونخرج من هذه الخطبة بالحقائق الآتية : أ ـ أن قريشاً كانت تطيع أمره وما ذلك إلا لأنه كان سيدهم وحاكم مكة .ب ـ اعتقاد هاشم الجازم بأن قريشاً أهل حرم الله جل وعلا وأشرف ولد آدم والناس تبع لهم وظل هذا الاعتقاد راسخاً في نفوس القرشيين .ج ـ خشية هاشم من أن الاعتفار أو الاحتفاد سوف ينقص عدد قريش ويذلهم . وسبق أن أوردنا أن هاشماً عندما ضربت قريشاً مجاعة في إحدى السنوات أحضر دقيقاً من الشام (فلسطين) وجعله ثريداً وهشمه وأطعم من أضير من المكيين من المجاعة . لقد شجب الاحتفاد أو الاعتفار قولاً وعملاً وأنقذ فقراء قريش لله من الموت جوعاً لشعوره بالمسئولية كحاكم لمكة ، ولاعتقاده أن الظلم الاجتماعي يقوض أركان الدولة التي كان يسعى لتدعيمها بعد أن وضع أساس بنيانها جده " قصي " .كذلك كان هاشم إذا بلغه خبر عن وقوع خلاف بين قبيلتين يؤذن بشر مستطير ، عمل جاهداً ولعل أشهر واقعة في هذا الصدد تلك التي خطب فيها خطبته المعروفة بـ ( الحكيمة ) والتي ملخصها أنه ( لما وقع بين عذرة وخزاعة هنة في سبب غلام لإمرأة من خزاعة يحطب لها ويعود بكسبه عليها ، فأصابه رجل من بني عذرة فقتله فحملت عذرة قيمته إلى خزاعة فأبوا أن يقبلوها وقالوا : لا يكون ذلك حتى نقتل غلام عمرة بنت قبيضة من سليك ، فتفاقم الأمر بينهم حتى تداعوا بالأحلاف ، فخشي هاشم ابن عبد مناف فساد الحرم وأن تنتهك حرمته فدعا بمنبره المركن ووعد الناس بئر بني قصي بن كلاب الحرد التي بملتقى الرفاق ، فلما اجتمع الناس قام فيهم خطيباً فخطب خطبته التي تسمى ( الحكيمة ) اختص فيها بني نزار دون قحطان ، ومضر دون ربيعة وقريشاً دون سائر القبائل فقال : معاشر الناس نحن آل إبراهيم وذرية إسماعيل وولد النضر بن كنانة وبنو قصي بن كلاب وأرباب مكة وسلطان الحرم ، لنا ذروة الشرف ولباب الحسب ومعدن وغاية العز . ونحن جبال الأرض ودعائم الحق وسادات الأمم ) . ودعا الفريقين إلى تحكيم العقل ونبذ الحرب ورأب الشعب وجمع الفرقة ( ثم سكت فقال بنو عذرة وبنو خزاعة : قد رضينا بحكمك يا أبا نضلة وانصرف القوم عن صلح )
من هذه الخطبة أيضاً نخرج بالحقائق التالية :أ ـ أن هاشماً عندما جمع القبيلتين المتنازعتين بني عذرة وخزاعة لفض خلافهما كان دافعه لذلك ( خشية فساد الحرم وانتهاك حرمته ) أي زعزعة استقرار الدولة التي يسهر على شئونها .ب ـ أنهم استجابوا لدعوته فوراً وهذا لمقامه كسيد لمكة وحاكم للبلد الحرام .ج ـ كان له ( منبر مركن ) شأن الملوك .د ـ أنهم رضوا بحكمه دون تردد .هـ وصف قريشاً بأوصاف لا تدع مجالاً لأدنى شك بإيمانه بأنها سيدة العرب ومالكة أمرهم عبارات بالغة الدلالة ، ناطقة بذاتها ليست في حاجة إلى تفسير وغنية عن أي تأويل ، ولقد ورث أبناؤه وأحفاده هذا الإيمان وغدا في نفوسهم عقيدة راسخة رسوخ الجبال أن قريشاً لم تعد قبيلة كسائر قبائل شبه الجزيرة العربية بل هي دولة حاكمة على أقدس مدينة ، وحائزة على شرف الهيمنة على أقدس كعبة فيها وأنها بصدد التحول إلى دولة مركزية سوف تسيطر على بلاد العرب من أدناها إلى أقصاها .و ـ أن من حضر من القبائل وسمع تلك الخطبة ( الحكيمة ) لم يجرؤ على أن يعارض كلمة واحدة منها ، لأنهم يوقنون في مستقر نفوسهم أن ما صرح به هاشم حق لا مرية فيه وأن " قريش الدولة " غدت واقعاً ملموساً وأنها اليوم تمسك بيديها زمام الأمور في مكة ، وفي الغد القريب سوف تسيطر على الجزيرة العربية كلها . ****
هذه لمحات سريعة عن الجهود التي بذلها هاشم في رفع بنيان دولة قريش وسوف يواصل تعليته من بعده ابنه عبد المطلب حتى يكتمل على يد حفيده محمد عليه السلام . .
وللدراسة بقية لمن يطلبها في تعليق