اصبح اليوم بالامكان ان نجد اشخاصا تقبل بأن ظواهر الوجود المادي تخضع لقوانينها الطبيعية ، كقوانين الحركة عند نيوتن وقوانين الكهرطيسية عند مكسويل وقوانين ميكانيك الكم وقوانين التحريك الحراري الثرموديناميك وقوانين حفظ المادة والطاقة الخ .... ولكنهم سيسألونك في النهاية من وضع هذه القوانين ؟
ولماذا تكون هذه القوانين على هذا النحو وليس على نحو أخر بحيث انها تنتج في النهاية عالما منظما تظهر فيه الحياة العاقلة ممثلة بالانسان؟..
لاشك ان هذا الطرح خطوة متقدمة للغاية بالمقارنة مع الطرح القديم حيث كان الانسان يتصور الإله الميكانيكي الذي يحمل الشمس في عربته كل يوم من الشرق الى الغرب ، ويفلق السماء ،ويجمع السحاب ويسير الرياح وينزل المطر حيث يريد ويرفع الجبال ويمسك السماء من ان تقع ويرص نوى الذرات ويحافظ على مدارات الالكترونات ويخلق الفيروسات ويمرض من يشاء ويرزق من يشاء بغير حساب، فالله كان هو قوانين عمل الاشياء ثم بعد اكتشاف القوانين اصبح من الضروري القول ان الله هو من خلق القوانين وترك المادة لتسير وفقاً لقوانينها. اي ان ظواهر الوجود تحدث طبيعيا ولكن وفق قانونية وضعها الخالق .
فهل حقيقة تحتاج قوانين الطبيعة إلى واضع ومارأي العلم في منشأ قوانين الطبيعة؟.
وإذا لم يكن الله هو الذي وضع قوانين الطبيعة فمن وضع قوانين الطبيعة ؟
أن القوانين الكونية مثل قانون انحفاظ الطاقة والعزم هي تعابير رياضية عن التناظرات الطبيعية في الزمان والمكان، وبالتالي هي تجريد ذهني ابتدعه الانسان لفهم واقع فيزيائي، أما القوانين الأخرى فتنبع أساسا من الإنكسار التلقائي لهذه التناظرات ، والحقيقة إن قوانين الفيزياء تدل على أن كوننا يبدو على ماهو عليه لأنه يمتلك نفس السمات الأساسية للخواء الفارغ ، تماما كما سيبدو لو نشأ تلقائيا من الخواء ، بدون سبب أو خالق .حسب مبادىء التناظر
Symmetry principles
مبدأ التناظر الكوني موضوع أساسي في مفاهيم الفيزياء الحديثة . من أشهر قوانين الفيزياء المصاغة بطريقة رياضية هي قانون حفظ الطاقة و قانون حفظ العزم الخطي والعزم الزاوي ، هذه القوانين هي قوانين كونية عالمية تنطبق على كل مظاهر الطبيعة من الالات الى التفاعلات الكيميائية الى العمليات البيولوجية الى النجوم والمجرات .
قانون حفظ الطاقة : الطاقة الكلية لنظام مغلق ثابتة.
قانون حفظ العزم الخطي: العزم الخطي الكلي لنظام مغلق ثابت
قانون حفظ العزم الزاوي: العزم الزاوي الكلي لنظام مغلق ثابت
وجد العلماء أن قانون حفظ الطاقة ينبع اساسا من تناظر التحويل الزمني وهذا التناظر يعني أنه لا يوجد في الفيزياء لحظة زمنية مميزة نبدأ منها العد والقياس فيمكن اخذ أي لحظة t=0 منطلقا للقياس أي يمكننا اختيار أي نقطة في الزمن لا على التحديد كمرجع قياس.
قانون حفظ العزم الخطي ينبع من تناظر التحويل المكاني أي عدم وجود موقع متميز في الفضاء يمكن اعتباره مرجع اسناد فكل النقاط المكانية يمكن اعتبارها مراجع اسناد ولافرق.
قانون حفظ العزم الزاوي ينبع من تناظر التدوير في الفضاء أي عدم وجود اتجاه متميز في الفضاء وكل الاتجاهات متماثلة ولافرق. أي أن كل نظام فيزيائي يتمتع بتناظر التحويل الزمني وتناظر التحويل المكاني وتناظر التدوير في الفضاء (لاوجود للحظة متميزة ، ولموقع متميز ، ولإتجاه متميز ) تتحقق فيه قوانين الحفظ المذكورة أعلاها والعكس بالعكس أي وجود قوانين الحفظ دلالة على وجود هذه التناظرات.
ولذلك اذا سأل احدهم من أين اتت قوانين حفظ الطاقة والعزم الخطي والعزم الزاوي فالجواب سيكون أنها أتت من لاشيء فهي تنبع تلقائيا من تناظرات التحويل الزمني والمكاني ، فلا حاجة لأي فعل "خلق" لإنتاج هذه القوانين. على العكس لو كانت هذه القوى غير موجودة في كوننا لكان هذا دليلا جيدا على وجود خالق لأن الحالة انذاك ستكون ذات مصدر غير طبيعي، وعندها بالامكان الاستمرار بالقول ان الحدث لامُحدث طبيعي له، وبالتالي المُحدث هو خالق، تماما كما كان الحال في التصورات السابقة.
والمدهش أن التناظرات التي ذكرناها سابقا هي تناظرات طبيعية تتحق في الخواء الخالي من أي مادة، وهذا ماسنراه فيما يلي.
quantum vacuum
الخلاء الكمي هو موضوع علمي عميق بدءه العالم البريطاني بول ديراك أحد الرواد المؤسسين لميكانيك الكم. والخلاء الكمي هو حالة فيزيائية لفضاء محدد لاتوجد فيه اية جزيئات حقيقية (وليس جزيئات افتراضية). حسب نظرية هيسينبيرغ لمبدأ عدم التأكد تستطيع الطبيعة استعارة الطاقة لفترات صغيرة متواترة. على ذلك يترتب ان الانسان لايستطيع معرفة المستقبل بدقة لانه غير قادر على معرفة الحاضر بدقة وهذا الامر مترابط تماما مع ظاهرة تشابه وتنوع الفركتالات وبالتالي الاحتمالات في اطار الوحدة. ظاهرة استعارة الطاقة عملية متواترة في الخلاء، حيث الطاقة تظهر لتختفي، في عملية لانهائية بين المادة والمادة المضادة ولذلك فإن " الفراغ" بالمعنى الكلاسيكي للكلمة (فراغ تام للمكان) لايمكن الوصول اليه. تجربة ماكس بلانك اكدت هذه المعرفة الفيزيائية كما ان الخلاء في درجة حرارة صفر كيلفين (الصفر المطلق) اظهر استمرار بقاء كمية من الطاقة وهذه الطاقة تجعل من المستحيل الوصول الى الخلاء المطلق. هذه الطاقة اطلق عليها اسم Zero-point energy وتم البرهان عليها من خلال Casimir effect. بذلك يكون العدم هو وجود كامن، ويعتقد بعض العلماء ان عالمنا هو مجرد تموجات اصابت الخواء الكمي.
بالامكان اجراء تجربة نظرية Thought experiment لنقيس خصائص الخواء، طبعا الخواء ليس مكاقئا للعدم وإلا لما أمكننا وصفه، عدا عن ان العدم هو مفهوم فلسفي وليس فيزيائي، ولكننا نفترض أن الخواء هو أقل مجال فيزيائي متاح لإجراء تجربة. لنفترض حيزا من الفضاء أزلنا منه كل أشكال المادة والطاقة ، سنحاول استخدام أداة قياس ولتكن مسطرة طولها مترا نستخدمها لقياس المسافات وساعة لقياس الزمن ، طبعا يمكننا استخدام توصيفات اخرى لاتعتمد على الزمان والمكان كقياس الطاقة اوغيرها ولكن الزمان والمكان اشياء مألوفة لنا.
طبعا لايوجد في الخواء شيئا لنقيسه ولكن حسب الفيزياء عند الرغبة في معرفة خصائص شيء ما يجب التعامل مع جزيئاته لفحص ومراقبة كيفية تصرفها.
للخواء تجربة "افتراضية" نسعى فيها لمعرفة ماهي التناظرات الممكنة في الخواء الخالي من أشكال المادة والطاقة. ولما كانت الخصائص التناظرية للكون هي نفسها الخصائص التناظرية التي يتصف بها الخلاء، على إ؟عتبار انه قطعة من الكون نفسه، سيعطينا ذلك نتيجة قابلة للمقارنة. و ننطلق من حالة بسيطة لنفهم لاحقا كيف يظهر الكون المعقد من انكسار التناظرات وهو حقيقة موضوع ليس بالهين ويحتاج إلى معرفة او إطلاع على جملة من النظريات الاخرى مثل نظرية الشواش ونظرية الفركتالات المتناظرة. عند محاولة القياس نجد انه لاوجود للحظة زمنية متميزة نبدأ منها القياس كما وجدنا أنه لاوجود لنقطة مكانية متميزة نعتبرها مرجع لقياس المسافات وكذلك الإتجاه، وبالتالي فأي نقطة يمكن اعتبارها البداية والنهاية ويمكن اعتبارها " ممثل" عن بقية الكون في اي بقعة منه ، وهنا لم يجري التطرق إلى موضوع تشكل العناصر أو ظهور الكون من العدم أو ظهور الكون من الخواء نفسه ونحن لم نعني أن هذا الخواء هو العدم نفسه لأنه في هذا لايمكننا دراسته، بالذات لان العدم غير موجود فيزيائيا.
لنحاول الأن قياس موقع جزيئاتنا في أوقات متعددة ،على أية حال نحن لانملك نقطة مرجعية نقيس مواقع جزيئاتنا نسبة لها ويمكن اختيار أي نقطة وجعلها مرجعا لنا ، وبكلمة اخرى كل الاماكن اختيارية وهذا يقودنا للخاصية الأولى لهذا الخواء أنه لايحتوي على موقع متميز وسنطلق على هذه الخاصية تناظر التحويل المكاني (هذا يعود إلى امكانية التحويل من أي محور احداثي لأخر).
تناظر التحويل المكاني : لايوجد موقع متميز.
الشيء الأخر الذي نلاحظه أننا يمكن أن نتجول حول جزيئنا التجريبي هذا وأن ننظر له من أي زاوية دون أن نلاحظ فرق. بكلام اخر كل الاتجاهات اختيارية وهذا يقودنا للخاصية الثانية للخواء أنه لايحتوي اي اتجاه متميز ونطلق على هذه الخاصية تناظر التدوير في الفضاء (تدوير محاور الاحداثيات في أي اتجاه)
تناظر التدوير في الفضاء: لايوجد اتجاه متميز.
ماذا عن الزمن لدينا ساعة لقياس الزمن ، ولايوجد شيء ليحدد متى نشغل الساعة ، أي لحظة زمنية اختيارية يمكن ان تكون مرجعا لنا وكل الأوقات اختيارية ونطلق على هذه الخاصية تناظر التحويل الزمني
تناظر التحويل الزمني: لايوجد لحظة متميزة في الزمن
المفاهيم التي ذكرناها سابقا هي مفاهيم بسيطة ولكنها في نفس الوقت عميقة ومايجعل هذه المفاهيم عميقة هو أنها تنطبق على كوننا الغير خالي أيضا. بعض الأمثلة التوضيحية عن أفكار التناظر لتقريب الصورة.
تتصف الكرة بأنها تمتلك تناظر تدوير في الفضاء ويعني هذا أنها تبدو نفسها من أي زاوية نظرت لها ، وهذا التناظر هو تناظر بالنسبة لأي محور تختاره ، بالمقابل فإن الإسطوانة لها تناظر تدوير بالنسبة لمحور واحد فقط هو محور الأسطوانة ، وللمخروط تناظر مماثل ، ولندفة الثلج كذلك تناظر على محور واحد فقط ولكن هذا التناظر مقيد أكثر. فبينما يمكن تدوير الأسطوانة والمخروط نسبة لمحورها بأي زاوية وتظل تبدو نفسها فإن ندفة الثلج يجب تدويرها بقفزات من ستين درجة ، أي أنها تمتلك تناظرا متقطعا Discrete symmetry بينما تمتلك الكرة والأسطوانة والمخروط تناظرا مستمرا Continues symmetry
ونلاحظ أنه عند انتقالنا من الكرة إلى الأسطوانة إلى ندفة الثلج فإننا ننتقل من جسم بسيط إلى أخر أكثر تعقيدا ، من بنية بسيطة إلى بنية معقدة. وبذلك فإن التعقيد Complexity مرتبط بمستويات أقل من التناظر أو مانطلق عليه كسر التناظر Symmetry Breaking .
من الملحوظ عامة أن الفكر الديني عدو لمبادىء التناظر فهناك دوما لحظة متميزة في الزمن ، كبداية الخلق ، الأخرة ومكان متميز ، الكعبة ، كنيسة القيامة ، كوكب الأرض واتجاه متميز القبلة ، الأعلى ، الأسفل. والفيزياء منذ نشأته على أيدي غاليلو وتأكيده نسبية الحركة حتى انيشتاين الذي أكد على نسبية مراجع الاسناد في الكون وعدم تمايزها عمقت مفاهيم التناظر، كما أن الفيزياء كانت تتجه دائما نحو سيرورة توحيد عميقة، توحدت فيها المادة والطاقة والمكان والزمان ، كما توحدت فيها قوى الطبيعة الأربعة فأصبحنا نعلم أن الكهرطيسية و القوى النووية القوية مثلا هما قوة واحدة عند درجات الحرارة العالية.
لايمكن للفكر الديني أبدا قبول مبادىء التناظر الزماني والمكاني لأنه يتعارض مع صميم اعتقاده ، فمركزية الأرض هي في صلب هذا الفكر. وكنت دائما أستغرب تأكيد داعية الإعجاز العلمي زغلول النجار مرارا على مركزية الأرض رغم كل مايعرفه عن نظريات الكون (الانفجار العظيم) التي تؤكد على عدم وجود مركز للكون غناك عن مايعني هذا من الرجوع إلى كون ماقبل كوبرنيكوس. هذا يؤكد تناقض هذا الفكر مع مبادى التناظر التي تقوم عليها الفيزياء الحديثة والتي تشتق منها قوانين الطبيعة. في الطبيعة أربع قوى تختلف في مداها وقوتها وهي:
القوة الجاذبية المسؤولة عن الجذب الثقالي بين الكتل المادية مثل، سقوط التفاحة ، دوران القمر حول الأرض، الأرض حول الشمس ، المجموعة الشمسية ، المجرات ، عناقيد المجرات وهي ذات مدى غير محدود وتعد قوى ضعيفة اذا ماقورنت بالقوة الكهرطيسية وهي قوى جذبية دائما.
القوة الكهرطيسية المسؤولة عن انجذاب الجسيمات المشحونة كهربائيا والحقيقة في الماضي كنا نعتبر القوى الكهربائية والقوى المغناطيسية قوتين مختلفتين إلا أنه في نهاية القرن التاسع عشر تم توحيد القوتان فيما عرف بنظرية المجال الكهرطيسي على أيدي العالم مكسويل ، وتم تعزيز هذا التوحيد لاحقا على أيدي انيشتاين حيث بين أن مجالا يبدو مغناطيسيا لشخص ما سيبدو كهربائيا لشخص اخر متحرك في اطار عدم التمييز (النسبية) بين مراجع الإسناد المتحركة، مدى القوة الكهرطيسية غير محدود.
القوى النووية القوية المسؤولة عن رص البروتونات والنترونات في نواة الذرة وهي أقوى من الكهرطيسية وذات مجال قصير لايتجاوز نواة الذرة. وطاقة الشمس والمفاعلات النووية الأرضية تعتمد عليها.
القوى النووية الضعيفة المسؤولة عن النشاط الإشعاعي للعناصر وتفككها وتحولها إلى عناصر غير مشعة ومداها محدود أيضا تفكك العناصر المشعة هو المسؤول عن سخونة باطن الأرض.
في الستينات أثبتت أعمال العالم الباكستاني محمد عبد السلام بالتعاون مع العالمين واينبرغ وغلاشو أنه لايمكننا التمييز بين القوى الكهرطيسية والنووية الضعيفة عند درجات الحرارة العالية أي ان هاتين القوتين هما قوة واحد تظهر على انها قوتان في درجات الحرارة المنخفضة وأصبحت تعرف هذه بالقوة بالكهرضعيفة electro weak.
أعماله لاحقة أستطاعت توحيد القوى النووية القوية مع القوتين المذكورتين سابقا في مايعرف بنظريات التوحيد الكبرى Grand Unifying Theories والحقيقة أن أحد المهام الملقاة على عاتق فيزيائي القرن الواحد والعشرين هي توحيد الجاذبية مع بقية القوى في نظرية واحدة تعرف بالجاذبية الكمومية.
عملية انفصال القوى الأربعة عن بعضها البعض وبروزها من قوى واحدة تسمى بعملية الإنكسار التلقائي للتناظر